تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ليميز الله الخبيث من الطيب}، يعنى يميز الكافر من المؤمن، ثم قال: {ويجعل} في الآخرة {الخبيث} أنفسهم {بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يحشر الله هؤلاء الذين كفروا بربهم، وينفقون أموالهم للصدّ عن سبيل الله إلى جهنم، ليفرّق بينهم -وهم أهل الخبث كما قال وسماهم الخَبِيثَ- وبين المؤمنين بالله وبرسوله، وهم الطيبون، كما سماهم جلّ ثناؤه. فميز جلّ ثناؤه بينهم بأن أسكن أهل الإيمان به وبرسوله جناته، وأنزل أهل الكفر ناره...
ويعني جلّ ثناؤه بقوله:"ويجعل الخَبِيثَ بَعْضَهُ على بَعْضٍ" فيجعل الكفار بعضهم فوق بعض. "فَيرْكُمَهُ جَمِيعا "يقول: فنجعلهم ركاما، وهو أن يجمع بعضهم إلى بعض حتى يكثروا، كما قال جلّ ثناؤه في صفة السحاب: "ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلْهُ رُكاما": أي مجتعما كثيفا... وقوله: "فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنّمَ" يقول: فيجعل الخبيث جميعا في جهنم... ثم قال: "أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ"... ويعني ب «أولئك»: الذين كفروا، وتأويله: هؤلاء الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله هم الخاسرون. ويعني بقوله: "الخَاسِرُونَ" الذين غبنت صفقتهم وخسرت تجارتهم وذلك أنهم شروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة، وتعجلوا بإنفاقهم إياها فيما أنفقوا من قتال نبيّ الله والمؤمنين به الخزي والذلّ.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...وقيل المعنى ليميز الله ما أنفقه المؤمنون في طاعة الله مما أنفقه المشركون في معاصيه. وقوله "ويجعل الخبيث بعضه على بعض "معناه إن الكافر يكون على أسوء حال كالمتاع والركام، هوانا، وتحقيرا، وإذلالا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الخبيث: ما لا يصلح لله، والطيب: ما يصلح لله. الخبيث: ما حكم الشرعُ بقبحه وفساده، والطيب: ما شهد العلم بحسنه وصلاحه. ويقال الخبيث: الكافرُ، والطيِّبُ: المؤمِنُ. الخبيثُ: ما شَغَل صاحبَه عن الله، والطيِّبُ: ما أوصل صاحبه إلى الله. الخبيثُ: ما يأخذه المرءُ وينفقه لحظِّ نفسه، والطيب: ما ينفقه بأمر ربه. الخبيث: عملُ الكافرِ يُصَوَّر له ويُعَذَّب بإِلقائه عليه، والطيِّبُ: عملُ المؤمن يُصَورُ له في صورةٍ جميلة فيحمل المؤمن عليه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وهذا يحتمل أن يكون هذا التمييز في الآخرة، كما قال تعالى: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ} [يونس: 28]، وقال تعالى {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14]، وقال في الآية الأخرى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم43]، وقال تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59]. ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا، بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين، وتكون "اللام "معللة لما جعل الله للكفار من مال ينفقون في الصد عن سبيل الله، أي: إنما أقدرناهم على ذلك؛ {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} أي: من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين، أو يعصيه بالنكول عن ذلك كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ} الآية [آل عمران: 166، 167]، وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الآية [آل عمران: 179]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] ونظيرتها في براءة أيضا. فمعنى الآية على هذا: إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم، وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك؛ ليتميز الخبيث من الطيب، فيجعل الخبيث بعضه على بعض، {فَيَرْكُمَهُ} أي: يجمعه كله، وهو جمع الشيء بعضه على بعض، كما قال تعالى في السحاب: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا} [النور: 43] أي: متراكما متراكبا، {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي: هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر حشر الكافرين ذكر علته فقال معلقاً بيحشرون: {ليميز الله} أي الذي له صفات الكمال بذلك الحشر {الخبيث من الطيب} أي إنما جعل للكفار داراً تخصهم ويخصونها لإظهار العدل والفضل بأن يميز الكافر من المؤمن فجعل لكل دار يتميز بها عدلاً في الكافرين وفضلاً على المؤمنين، فيجعل الطيب في مكان واسع حسن {ويجعل الخبيث} أي الفريق المتصف بهذا الوصف {بعضه على بعض}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ليميز الله الخبيث من الطيب} يعني أن الله تعالى كتب النصر والغلب والفوز لعباده المؤمنين المتقين، والخذلان والحسرة لمن يعاديهم ويقاتلهم من الكافرين للصدّ عن سبيل الله الذي استقاموا عليه، وجعل هذا جزاء كل من الفريقين ما داما على حالهما، فإذا غيرا ما بأنفسهما غيّر الله ما بهما. جعل هذا جزاءهما في الدنيا وجعل جهنم مأوى للكفار وحدهم في الآخرة، لأجل أن يميز الكفر من الإيمان، والحق والعدل من الجور والطغيان، فلن يجتمع في حكمه سبحانه الضدان، ولا يستوي في جزائه النقيضان {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب} [المائدة: 100] فالخبيث والطيب في حكم العقلاء والفضلاء، كالخبيث والطيب الحسيين في حكم سليمي الحواس ولاسيما الشمّ. وقد سبق لنا تحقيق هذا المعنى في تفسير هذه الآية من سورة المائدة وفي تفسير {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب} [آل عمران: 179].
.. {ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا} أي ويجعل سبحانه الخبيث بعضه منضما متراكبا على بعض بحسب سنته تعالى في اجتماع المتشاكلات، وانضمام المتناسبات، وائتلاف المتعارفات، واختلاف المتناكرات، يقال ركمه إذا جمع بعضه إلى بعض ومنه {سحاب مركوم} [الطور: 44] {فيجعله في جهنم} يجعل أصحابه فيها يوم القيامة {أولئك هم الخاسرون} التامو الخسران وحدهم، لأنهم خسروا أموالهم وأنفسهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل ويملي له في العدوان؛ فيقابله الحق بالكفاح والجهاد؛ وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة.. وفي هذا الاحتكاك المرير، تنكشف الطباع، ويتميز الحق من الباطل، كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل -حتى بين الصفوف التي تقف ابتداء تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء!- ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله، لأنهم أهل لحمل أماناته، والقيام عليها، وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة.. عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث، فيلقي به في جهنم.. وتلك غاية الخسران..
والتعبير القرآني يجسم الخبيث حتى لكأنه جِرم ذو حجم، وكأنما هو كومة من الأقذار، يقذف بها في النار، دون اهتمام ولا اعتبار!
(فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم)..
وهذا التجسيم يمنح المدلول وقعا أعمق في الحس.. وتلك طريقة القرآن الكريم في التعبير والتأثير..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ليَميز} متعلق ب {يحشرون} لبيان أن من حكمة حشرهم إلى جهنم أن يتميز الفريق الخبيث من الناس من الفريق الطيب في يوم الحشر، لأن العلة غيرَ المؤثرة تكون متعددة، فتمييز الخبيث من الطيب من جملة الحِكَم لحشر الكافرين إلى جهنم.
... والخبيث الشيء الموصوف بالخُبث والخباثة وحقيقة ذلك أنه حالة حشية لشيء تجعله مكروهاً مثل القذر، والوسخ، ويطلق الخبث مجازاً على الحالة المعنوية من نحو ما ذكرنا تشبيهاً للمعقول بالمحسوس، وهو مجاز مشهور، والمراد به هنا خسة النفوس الصادرة عنها مفاسد الأعمال، والطيّب الموصوف بالطيب ضد الخُبث بإطلاقيه فالكفر خبث لأن أساسه الاعتقاد، الفاسد، فنفس صاحبه تتصور الأشياء على خلاف حقائقها فلا جرم أن تأتي صاحبها بالأفعال على خلاف وجهها، ثم إن شرائع أهل الكفر تأمر بالمفاسد والضلالات وتصرف عن المصالح والهداية بسبب السلوك في طرائق الجهل وتقليبِ حقائق الأمور، وما من ضلالة إلاّ وهي تفضي بصاحبها إلى أخرى مثلها، والإيمان بخلاف ذلك.
و (مِنْ) في قوله: {من الطيب} للفصل، وتقدم بيانها عند قوله تعالى: {والله يعلم المفسد من المصلح} في سورة [البقرة: 220]
وجَعْل الخبيث بعضِه على بعض: علة أخرى لحشر الكافرين إلى جهنم ولذلك عطف بالواو فالمقصود جمع الخبيث وإن اختلفت أصنافه في مجمع واحد، لزيادة تمييزه عن الطيب، ولتشهير من كانوا يُسرون الكفر ويظهرون الإيمان، وفي جمعه بهذه الكيفية تذليل لهم وإيلام، إذ يجعل بعضهم على بعض حتى يصيروا رُكاماً.
والركْم: ضم شيء أعلى إلى أسفل منه، وقد وصف السحاب بقوله: {ثم يجعله ركاماً} [النور: 43] واسم الإشارة ب {أولئك هم الخاسرون} للتنبيه على أن استحقاقهم الخبَر الواقع عن اسم الإشارة كان بسبب الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة، فإن من كانت تلك حاله كان حقيقاً بأنه قد خسر أعظم الخسران، لأنه خسر منافع الدنيا ومنافع الآخرة.
فصيغة القصر في قوله: {هم الخاسرون} هي للقصر الادعائي، للمبالغة في اتصافهم بالخسران، حتى يعد خسران غيرهم كلا خسران وكأنهم انفردوا بالخسران من بين الناس.
والحق سبحانه وتعالى أعطانا أمثالا لأحداث تميز الخبيث من الطيب، فالناس في الأحوال العادية الرتيبة لا تظهر معادن نفوسهم، لأن الناس إذا كانوا مؤمنين لا يواجهون، خطرا، ادعوا الشجاعة والكرم والشهامة، وادَّعوا الإيمان القوي المستعد لأي تضحية في سبيل الله، فإذا جاءت الأحداث فهي الاختبار الحقيقي لما في القلوب ...
... فما الذي يحدد –إذن- صدق الحديث عن النفس؟ إنها الأحداث. وهكذا أراد الله تعالى أن يميز الخبيث من الطيب فعركت المؤمنين الحوادث، وزال الطلاء عن ذوي العقيدة الهشة؛ ليكون الناس شهداء على أنفسهم، ويبقى المؤمنون أصحاب صفاء القلب والعقيدة. وحين يميز الله الخبيث من الطيب، فهو سبحانه وتعالى: يريد تمييز الطيب حتى لا يختلط بالخبيث. والخبيث إنما يكون على ألوان مختلفة وأنواع متعددة، فهذا خبيث في ناحية، وذلك خبيث في ناحية أخرى، وثالث خبيث في ناحية ثالثة، وغيرهم في ناحية رابعة، وخامسة إلى ما شاء الله، ويجمع الله كل الخبيث فيركمه في النار جميعا...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبعد أن تكلمت الآية السابقة على ثلاث نتائج مشؤومة لإِنفاق أعداء الإِسلام، فإنّ الآية التي تليها تقول: (ليميز الله الخبيث من الطيّب).
هذه سنة إلّهية دائمة أن يُعرف المخلص من غير المخلص، والطاهر من غير الطاهر، والمجاهد الصادق من الكاذب، والأعمال الطيبة من الأعمال الخبيثة، فلا يبقى أي من ذلك مجهولا أبداً، بل لابدّ في النهاية من أن تمتاز الصفوف بعضها عن بعض ويسفر الحق عن وجهه. وهذا الأمر يتحقق طبعاً عندما يكون أتباع الحق كأُولئك المسلمين الأوائل يوم بدر في مستوى كاف من التضحية والوعي.
ثمّ تضيف الآية (ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم).
فالخبيث من أية طائفة وفي أي شكل كان سيؤول في النهاية إِلى الخسران، كما تقول الآية في نهاية المطاف (أُولئك هم الخاسرون).