البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجۡعَلَ ٱلۡخَبِيثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضٖ فَيَرۡكُمَهُۥ جَمِيعٗا فَيَجۡعَلَهُۥ فِي جَهَنَّمَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (37)

الركم .

قال الليث : جمعك شيئاً فوق شيء حتى تجعله ركاماً مركوماً كركام الرمل والسحاب .

و { الخبيث } و { الطيب } وصفان يصلحان للآدميين وللمال وتقدّم ذكرهما في قوله { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم } فمن المفسرين من تأوّل { الخبيث } و { الطيب } على الآدميين ، فقال ابن عباس : { ليميز } أهل السعادة من أهل الشقاوة ونحوه ، قال السدّي ومقاتل قالا : أراد المؤمن من الكفار وتحريره ليميز أهل الشقاوة من أهل السعادة والكافر من المؤمن ، وقدّره الزمخشري : الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيّب من المؤمنين ، ومعنى جعل الخبيث بعضه على بعض وركمه ضمّه وجمعه حتى لا يفلت منهم أحد واحتمل الجعل أن يكون من باب التصيير ومن باب الإلقاء .

وقال ابن القشيري : { ليميز الله الخبيث من الطيب } بتأخير عذاب كفار هذه الأمة إلى يوم القيامة ليستخرج المؤمنين من أصلاب الكفار انتهى ، فعلى ما سبق يكون التمييز في الآخرة وعلى القول الأخير يكون في الدنيا ومن المفسرين من تأوّل { الخبيث } و { الطيب } على الأموال ، فقال ابن سلام والزجاج : المعنى بالخبيث المال الذي أنفقه المشركون كمال أبي سفيان وأبي جهل وغيرهما المنفَق في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعانة عليه في الصد عن سبيل الله و { الطيب } هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله كمال أبي بكر وعمر وعثمان ولام { ليميز } على هذا متعلقة بقوله { يغلبون } قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري بقوله { ثم تكون عليهم حسرة } والمعنى { ليميز } الله الفرق بين { الخبيث والطيب } فيخذل أهل الخبث وينصر أهل الطيب ويكون قوله { فيجعله في جهنم } من جملة ما يعذبون به كقوله { فتكوى بها جباههم } - إلى قوله - { فذوقوا ما كنتم تكنزون } قاله الحسن ، وقيل الخبيث ما أُنفق في المعاصي والطيب ما أنفق في الطاعات ، وقيل المال الحرام من المال الحلال ، وقيل ما لم تؤدّ زكاته من الذي أُدِّيت زكاته ، وقيل هو عامّ في الأعمال السيئة وركمها ختمها وجعلها قلائد في أعناق عمالها في النار ولكثرتها جعل بعضها فوق بعض وإن كان المعنى بالخبيث الأموال التي أنفقوها في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقيل : الفائدة في إلقائها في النار أنها لما كانت عزيزة في أنفسها عظيمة بينهم ألقاها الله في النار ليريهم هو أنها كما تلقى الشمس والقمر في النار ليرى من عبدهما ذلهما وصغارهما والذي يظهر من هذه الأقوال هو الأول ، وهو أن يكون المراد بالخبيث الكفار وبالطيب المؤمنون إذ الكفار أولاهم المحدّث عنهم بقوله ينفقون أموالهم ، وقوله { فسينفقونها } وبقوله ثم { إلى جهنم يحشرون } وأخراهم المشار إليهم بقوله { أولئك هم الخاسرون } ولما كان تغلب الإنسان في ماله وتصرفه فيه يرجو بذلك حصول الربح له أخبر تعالى أن هؤلاء هم الذين خسروا في إنفاقهم وأخفقت صفقتهم حيث بذل أعزّ ما عنده في مقابلة عذاب الله ولا خسران أعظم من هذا ، وتقدم ذكر الخلاف في قراءة ليميز في قوله

{ حتى يميز الخبيث من الطيب } ويقال ميزته فتميز وميزته فانماز حكاه بعقوب ، وفي الشاذ وانمازوا اليوم وأنشد أبو زيد قول الشاعر :

لما ثنى الله عني شرّ عذرته *** وانمزت لا منسأ دعراً ولا رجلا