اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجۡعَلَ ٱلۡخَبِيثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضٖ فَيَرۡكُمَهُۥ جَمِيعٗا فَيَجۡعَلَهُۥ فِي جَهَنَّمَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (37)

قوله { لِيَمِيزَ الله الخبيث } قد تقدَّم الكلامُ فيه في آل عمران : [ 179 ] . والمعنى : ليميزَ اللَّهُ الفريق الخبيث من الكُفَّارِ من الفريق الطَّيب من المؤمنين ، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً ، أي : يجمعهم ويضمُّهم حتَّى يتراكموا .

" أولَئِكَ " إشارةً إلى الفريق الخبيثِ ، وقيل : المراد الخبيث : نفقة الكافر على عداوة محمد- عليه الصلاة والسلام- ، وبالطيب : نفقة المؤمن في جهاد الكفار ، كإنفاقِ أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فيضم تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنَّم ، ويعذبهم بها ، كقوله تعالى : { فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } [ التوبة : 35 ] فاللاَّمُ في قوله { لِيَمِيزَ الله الخبيث } على القول الأوَّلِ متعلقة بقوله تعالى : { يُحْشَرُونَ } أي : يحشرون ليميز اللَّهُ الفريق الخبيث من الفريق الطيب ، وعلى القول الثاني متعلقة بقوله : { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } و " يَجْعَلَ " يحتمل أن تكون تصييريةً ، فتنصبَ مفعولين ، وأن تكون بمعنى الإلقاء ، فتتعدَّى لواحد ، وعلى كلا التقديرين ف " بَعْضَهُ " بدل بعضٍ من كل ، وعلى القول الأوَّلِ يكون " عَلَى بعضٍ " في موضع المفعول الثَّاني ، وعلى الثَّاني يكون متعلقاً بنفس الجَعْل ، نحو قولك : ألقَيْتَ متاعك بعضه على بعض .

وقال أبُو البقاءِ ، بعد أن حكم عليها بأنَّها تتعدَّى لواحدٍ :

" وقيل : الجار والمجرور حالٌ تقديره : ويجعل الخبيث بعضه عالياً على بعض " .

ويقال : مَيَّزْتُه فتمَيَّزَ ، ومزْنُه فانمازَ ، وقرئ شاذاً{[17334]} : { وانمازوا اليوم } [ يس : 59 ] ؛ وأنشد أبو زيدٍ : [ البسيط ]

لمَّا نَبا اللَّهُ عَنِّي شرَّ غُدْرَتِهِ *** وانْمَزْتُ لا مُنْسِئاً ذُعْراً ولا وَجِلا{[17335]}

وقد تقدَّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران [ 179 ] .

قوله " فَيَرْكُمَهُ " نسقٌ على المنصوبِ قبله ، والرَّكْمُ جمعك الشَّيء فوق الشيء ، حتى يصير رُكَاماً مركوماً كما يُركم الرمل والسحاب ، ومنه : { سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] والمُرْتَكَم : جَادَّة الطريق للرَّكْم الذي فيه أي : ازدحام السَّبابلة وآثارهم ، و " جَمِيعاً " حالٌ ، ويجوزُ أن يكون توكيداً عند بعضهم ثم قال تعالى : { أولئك هُمُ الخاسرون } إشارة إلى الذين كفرُوا .


[17334]:ينظر: المحرر الوجيز 2/526، البحر المحيط 4/488، الدر المصون 3/418.
[17335]:البيت لـ "مالك بن الريب". ينظر: البحر المحيط 4/488، الأغاني 19/165، والدر المصون 3/418.