المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (37)

37- وأحس آدم هو وزوجته بخطئهما وظلمهما لأنفسهما ، فألهم الله تعالى آدم كلمات يقولها للتوبة والاستغفار ، فقالها ، فتقبَّل الله منه وغفر له لأنه كثير القبول للتوبة ، وهو الرحيم بعباده الضعفاء .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (37)

جاء بالفاء إيذاناً بمبادرة آدم بطلب العفو . والتلقي استقبال إكرام ومسرة قال تعالى : { وتتلقاهم الملائكة } [ الأنبياء : 103 ] ووجه دلالته على ذلك أنه صيغة تفعل من لقيه وهي دالة على التكلف لحصوله وتطلبه وإنما يتكلف ويتطلب لقاء الأمر المحبوب بخلاف لاقى فلا يدل على كون الملاقى محبوباً بل تقول لاقى العدو . واللقاء الحضور نحو الغير بقصد أو بغير قصد وفي خير أو شر ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } [ الأنفال : 45 ] الآية فالتعبير بتلقى هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له فعلم أنها ليست كلمات زجر وتوبيخ بل كلمات عفو ومغفرة ورضى وهي إما كلمات لقنها آدم من قبل الله تعالى ليقولها طالباً المغفرة وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن أهبطه من الجنة اكتفاء بذلك في العقوبة ، ومما يدل على أنها كلمات عفو عطف { فتاب عليه } بالفاء إذ لو كانت كلمات توبيخ لما صح التسبب .

وتلقي آدم للكلمات إما بطريق الوحي أو الإلهام . ولهم في تعيين هذه الكلمات روايات أعرضنا عنها لقلة جدوى الاشتغال بذلك ، فقد قال آدم الكلمات فتيب عليه فلنهتم نحن بما ينفعنا من الكلام الصالح والفعل الصالح .

ولم تذكر توبة حواء هنا مع أنها مذكورة في مواضع أخرى نحو قوله : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] لظهور أنها تتبعه في سائر أحواله وأنه أرشدها إلى ما أرشد إليه ، وإنما لم يذكر في هذه الآية لأن الكلام جرى على الابتداء بتكريم آدم وجعله في الأرض خليفة فكان الاعتناء بذكر تقلباته هو الغرض المقصود .

وأصل معنى تاب رجع ونظيره ثاب بالمثلثة ، ولما كانت التوبة رجوعاً من التائب إلى الطاعة ونبذاً للعصيان وكان قبولها رجوعاً من المتوب إليه إلى الرضى وحسن المعاملة وصف بذلك رجوع العاصي عن العصيان ورجوع المعصي عن العقاب فقالوا تاب فلان لفلان فتاب عليه لأنهم ضمنوا الثاني معنى عطف ورضى فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدى به وكان أصله مبنياً على المشاكلة .

والتوبة تتركب من علم وحال وعمل ، فالعلم هو معرفة الذنب والحال هو تألم النفس من ذلك الضرر ويسمى ندماً ، والعمل هو الترك للإثم وتدارك ما يمكن تداركه وهو المقصود من التوبة ، وأما الندم فهو الباعث على العمل ولذلك ورد في الحديث : " الندم توبة " قاله الغزالي ، قلت : أي لأنه سببها ضرورة أنه لم يقصر لأن أحد الجزءين غير معرفة .

ثم التعبير بتاب عليه هنا مشعر بأن أكل آدم من الشجرة خطيئة إثم غير أن الخطيئة يومئذ لم يكن مرتباً عليها جزاءُ عقاب أخروي ولا نقص في الدين ولكنها أوجبت تأديباً عاجلاً لأن الإنسان يومئذ في طور كطور الصبا فلذلك لم يكن ارتكابها بقادح في نبوءة آدم على أنها لا يظهر أن تعد من الكبائر بل قصارها أن تكون من الصغائر إذ ليس فيها معنى يؤذن بقلة اكتراث بالأمر ولا يترتب عليه فساد ، وفي عصمة الأنبياء من الصغائر خلاف بين أصحاب الأشعري وبين الماتريدي وهي في كتب الكلام ، على أن نبوءة آدم فيما يظهر كانت بعد النزول إلى الأرض فلم تكن له عصمة قبل ذلك إذ العصمة عند النبوءة .

وعندي وبعضه مأخوذ من كلامهم أن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف بالمعنى المتعارف عند أهل الشرائع بل عالم تربية فقط فتكون خطيئة آدم ومعصيته مخالفة تأديبية ولذلك كان الجزاء عليها جارياً على طريقة العقوبات التأديبية بالحرمان مما جره إلى المعصية ، فإطلاق المعصية والتوبة وظلم النفس على جميع ذلك هو بغير المعنى الشرعي المعروف بل هي معصية كبيرة وتوبة بمعنى الندم والرجوع إلى التزام حسن السلوك ، وتوبة الله عليه بمعنى الرضى لا بمعنى غفران الذنوب ، وظلم النفس بمعنى التسبب في حرمانها من لذات كثيرة بسبب لذة قليلة فهو قد خالف ما كان ينبغي أن لا يخالفه ويدل لذلك قوله بعد ذلك : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي إلى قوله خالدون } [ البقرة : 38 ، 39 ] فإنه هو الذي بين به لهم أن المعصية بعد ذلك اليوم جزاؤها جهنم فأورد عليّ بعض الحذاق من طلبة الدرس أنه إذا لم يكن العالم عالم تكليف فكيف كفر إبليس باعتراضه وامتناعه من السجود ؟ فأجبته بأن دلالة ألوهية الله تعالى في ذلك العالم حاصلة بالمشاهدة حصولاً أقوى من كل دلالة زيادة على دلالة العقل لأن إبليس شاهد بالحس الدلائل على تفرده تعالى بالألوهية والخلق والتصرف المطلق وبعلمه وحكمته واتصافه بصفات الكمال كما حصل العلم بمثله للملائكة فكان اعتراضه على فعله والتغليط إنكاراً لمقتضى تلك الصفات فكان مخالفة لدلائل الإيمان فكفر به . وأما الأمر والنهي والطاعة والمعصية وجزاء ذلك فلا يتلقى إلا بالإخبارات الشرعية وهي لم تحصل يومئذ وإنما حصلت بقوله تعالى لهم : { فمن تبع هداي } الآية فظهر الفرق .

وقرأ الجمهور { آدم } بالرفع و { كلمات } بالنصب ، وقرأه ابن كثير بنصب { آدم } ورفع { كلمات } على تأويل { تلقى } بمعنى بلغته كلمات فيكون التلقي مجازاً عن البلوغ بعلاقة السببية .

وقوله : { إنه هو التواب الرحيم } تذييل وتعليل للجملة السابقة وهي { فتاب عليه } لأنه يفيد مفادها مع زيادة التعميم والتذييل من الإطناب كما تقرر في علم المعاني . ومعنى المبالغة في التواب أنه الكثير القبول للتوبة أي لكثرة التائبين فهو مثال مبالغة من تاب المتعدي بعلى الذي هو بمعنى قبول التوبة إيذان بأن ذلك لا يخص تائباً دون آخر وهو تذييل لقوله : { فتلقى آدم من ربه } المؤذن بتقدير تاب آدم فتاب الله عليه على جعل التواب بمعنى الملهم لعباده الكثيرين أن يتوبوا فإن أمثلة المبالغة قد تجيء من غير التكاثر فالتواب هنا معناه الملهم التوبة وهو كناية عن قبول توبة التائب .

وتعقيبه بالرحيم لأن الرحيم جار مجرى العلة للتواب إذ قبوله التوبة عن عباده ضرب من الرحمة بهم وإلا لكانت التوبة لا تقتضي إلا نفع التائب نفسه بعدم العود للذنب حتى تترتب عليه الآثام ، وأما الإثم المترتب فكان من العدل أن يتحقق عقابه لكن الرحمة سبقت العدل هنا بوعد من الله .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (37)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

أما تأويل قوله:"فَتَلَقّى آدَمُ" فقيل: إنه أخذ وقبل، وأصله التفعل من اللقاء، كما يتلقى الرجل الرجل يستقبله عند قدومه من غيبة أو سفر، فكذلك ذلك في قوله: "فَتَلَقّى "كأنه استقبله فتلقاه بالقبول، حين أوحى إليه، أو أخبر به. فمعنى ذلك إذا: فلقّى الله آدمَ كلمات توبة، فتلقاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبا، فتاب الله عليه بقيله إياها وقبوله إياها من ربه...

قال ابن زيد في قوله: "فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ" الآية، قال: لقاهما هذه الآية: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين"...

وقد قرأ بعضهم: «فَتَلَقّى آدَمَ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٌ» فجعل الكلمات هي المتلقية آدم. وذلك من وجهة العربية جائز إذ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له متلق وما لقيه فقد لقيه، فصار للمتكلم أن يوجه الفعْل إلى أيهما شاء ويخرج من الفعل أيهما أحب، فغير جائز عندي في القراءة إلا رفع «آدم» على أنه المتلقي الكلمات لإجماع الحجة من القراء وأهل التأويل من علماء السلف والخلف على توجيه التلقي إلى آدم دون الكلمات...

واختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها آدم من ربه؛

فقال بعضهم:

عن ابن عباس: "فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ" قال: أي ربّ ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي ربّ ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي ربّ ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، أي ربّ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن أنا تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم. قال: فهو قوله: "فَتَلَقّى آدمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ".

... عن مجاهد: "فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ" قال: هو قوله: "ربنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لمْ تَغفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا" الآية...

عن مجاهد: "فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ" قال: أي ربّ أتتوب عليّ إن تبت؟ قال: نعم فتاب آدم، فتاب عليه ربه.

قال ابن زيد: هو قوله: "رَبّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الخاسِرِينَ".

وقال آخرون:

[عن] عبيد بن عمير، يقول: قال آدم: يا ربّ خطيئتي التي أخطأتها أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي؟ قال: بلى شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك. قال: فكما كتبته عليّ فاغفره لي قال: فهو قول الله: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كلِماتٍ.

وقال آخرون:

عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية أنه قال: قوله: "فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ فَتاب عَلَيْهِ" قال آدم: اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، تب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم.

[و] عن مجاهد، كان يقول في قول الله: "فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ": الكلمات: اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين. اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين. اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، ربّ إني ظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم.

وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه وإن كانت مختلفة الألفاظ، فإن معانيها متفقة في أن الله جل ثناؤه لقّى آدم كلمات، فتلقاهن آدم من ربه فقبلهن وعمل بهن، وتاب بقيله إياهن وعمله بهن إلى الله من خطيئته، معترفا بذنبه، متنصلاً إلى ربه من خطيئته، نادما على ما سلف منه من خلاف أمره. فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه وندمه على سالف الذنب منه. والذي يدلّ عليه كتاب الله أن الكلمات التي تلقاهن آدم من ربه هنّ الكلمات التي أخبر الله عنه أنه قالها متنصلاً بقيلها إلى ربه معترفا بذنبه، وهو قوله: "رَبّنا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكونَن مِنَ الخَاسِرِينَ"...

وهذا الخبر الذي أخبر الله عن آدم من قيله الذي لقاه إياه فقاله تائبا إليه من خطيئته، تعريف منه جل ذكره جميع المخاطبين بكتابه كيفية التوبة إليه من الذنوب، وتنبيه للمخاطبين بقوله: "كَيْفَ تَكْفُرونَ باللّهِ وكُنْتُمْ أَمْوَاتا فأحْياكُمْ" على موضع التوبة مما هم عليه من الكفر بالله، وأن خلاصهم مما هم عليه مقيمون من الضلالة نظير خلاص أبيهم آدم من خطيئته مع تذكيره إياهم من السالف إليهم من النعم التي خصّ بها أباهم آدم وغيره من آبائهم.

"فَتابَ عَلَيْهِ": يعني على آدم، والهاء التي في «عليه» عائدة على «آدم». وقوله: "فَتابَ عَلَيْهِ": يعني رزقه التوبة من خطيئته.

والتوبة معناها الإنابة إلى الله والأوبة إلى طاعته مما يكره من معصيته.

" إنّهُ هُوَ التَوّابُ الرّحِيمُ": أن الله جل ثناؤه هو التواب على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه. وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلى ربه: إنابته إلى طاعته، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يسخطه من الأمور التي كان عليها مقيما مما يكرهه ربه، فكذلك توبة الله على عبده هو أن يرزقه ذلك، ويتوب من غضبه عليه إلى الرضا عنه، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه.

وأما قوله: الرّحِيمُ فإنه يعني أنه المتفضل عليه مع التوبة بالرحمة، ورحمته إياه إقالة عثرته وصفحه عن عقوبة جرمه...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

معنى تلقي الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها. وقرئ بنصب آدم ورفع الكلمات؛ على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به...

عن ابن مسعود رضي الله عنه: «إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة: سبحانك اللَّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»...

{فَتَابَ عَلَيْهِ} فرجع عليه بالرحمة والقبول.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وسئل بعض سلف المسلمين عما ينبغي أن يقوله المذنب، [فقال] يقول ما قال أبواه، {ربنا ظلمنا أنفسنا...}...

وإنما خص الله تعالى آدم بالذكر هنا في التلقي والتوبة، وحواء مشاركة له في ذلك بإجماع لأنه المخاطب في أول القصة بقوله: {اسكن أنت وزوجك الجنة} فلذلك كملت القصة بذكره وحده، وأيضاً فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها، ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: {وعصى آدم ربه فغوى} [طه: 121]...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قال الغزالي رحمه الله: التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة: علم وحال وعمل؛ فالعلم أول، والحال ثان، والعمل ثالث. والأول موجب للثاني، والثاني موجب للثالث إيجابا اقتضته سنة الله في الملك والملكوت.

أما العلم فهو معرفة ما في الذنب من الضرر، وكونه حجابا بين العبد ورحمة الرب، فإذا عرف ذلك معرفة محققة حصل من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات المحبوب، على الفعل الذي كان سببا لذلك الفوات، فسمي ذلك التأسف ندما.

ثم إن ذلك الألم إذا تأكد، حصلت منه إرادة جازمة ولها تعلق بالحال وبالمستقبل وبالماضي؛ أما تعلقها بالحال، فبترك الذنب الذي كان ملابسا له. وأما بالمستقبل فالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر. وأما بالماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر.

فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات، وأعني به اليقين التام بأن هذه الذنوب سموم مهلكة، فهذا اليقين نور وهذا النور يوجب نار الندم فيتألم به القلب حيث أبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوبا عن محبوبه لن يشرق عليه نور الشمس، وقد كان في ظلمة فيطلع النور عليه بانقشاع السحاب، فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فتنبعث من تلك النيران إرادته للانتهاض للتدارك، فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مترتبة في الحصول [على التوبة].

ويطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده ويجعل العلم السابق كالمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر...

[و] لا ينفك الندم عن علم أوجبه وعن عزم يتبعه فيكون الندم محفوفا بطرفيه، أعني مثمره وثمرته، فهذا هو الذي لخصه الشيخ الغزالي في حقيقة التوبة وهو كلام حسن.

وقال القفال: لابد في التوبة من ترك ذلك الذنب، ومن الندم على ما سبق، ومن العزم على أن لا يعود إلى مثله، ومن الإشفاق فيما بين ذلك كله، أما أنه لابد من الترك فلأنه لو لم يترك لكان فاعلا له فلا يكون تائبا وأما الندم فلأنه لو لم يندم لكان راضيا بكونه فاعلا له والراضي بالشيء قد يفعله والفاعل للشيء لا يكون تائبا عنه، وأما العزم على أن لا يعود إلى مثله فلأن فعله معصية والعزم على المعصية معصية، وأما الإشفاق فلأنه مأمور بالتوبة ولا سبيل له إلى القطع بأنه أتى بالتوبة كما لزمه فيكون خائفا ولهذا قال تعالى: {يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه}...

واعلم أن... في هذه الآية فوائد:

إحداها: أنه لابد وأن يكون العبد مشتغلا بالتوبة في كل حين وأوان، لما ورد في ذلك.

...

ورابعها:... أن القلب لا ينفك عن الخطرات والخواطر والشهوات وأنواع الميل والإرادات فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر

...

المسألة التاسعة: إنما اكتفى الله تعالى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعا له كما طوى ذكر النساء في القرآن والسنة لذلك، وقد ذكرها في قوله: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا}...

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

{فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم}... وفي الجملة الاسمية ما يقوي رجاء المذنبين، ويجبر كسر قلوب الخاطئين، حيث افتتحها ب"إن" وأتى بضمير الفصل وعرف المسند وأتى به من صيغ المبالغة إشارة إلى قبول التوبة كلما تاب العبد، ويحتمل أن ذلك لكثرة من يتوب عليهم، وجمع بين وصفي كونه تواباً وكونه رحيماً إشارة إلى مزيد الفضل،

وقدم التواب لظهور مناسبته لما قبله.

وقيل في ذكر الرحيم بعده إشارة إلى أن قبول التوبة ليس على سبيل الوجوب... بل على سبيل الترحم والتفضل، وأنه الذي سبقت رحمته غضبه، فيرحم عبده في عين غضبه كما جعل هبوط آدم سبب ارتفاعه، وبعده سبب قربه فسبحانه من تواب ما أكرمه، ومن رحيم ما أعظمه، وإذا فسر التواب بالرجاع إلى المغفرة كان الكلام تذييلاً لقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ} أو بالذي يكثر الإعانة على التوبة كان تذييلا لقوله تعالى: {فَتَلَقَّى ءادَمُ} الخ،...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ثم قال {فتلقى آدم من ربه كلمات} أي ألهمه الله إياها فأناب إليه بها وهي كما في سورة الأعراف {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} تاب آدم بذلك وأناب إلى ربه {فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} أي قبل توبته؛ وعاد عليه بفضله ورحمته، وبين سبب ذلك بأنه تعالى هو التواب أي الذي يقبل التوبة كثيرا، فمهما يذنب العبد ويندم ويتب يتب الرب عليه، وبأنه هو الرحيم بعباده مهما يسئ أحدهم بما هم سبب لغضبه تعالى ويرجع إليه فإنه يحفه برحمته. وكل ما ورد في هبوط آدم وحواء من تعيين الأمكنة فهو من الإسرائيليات الباطلة...

(قال) وأما مسألة عصمة آدم فالجري على طريقة السلف يذهب بنا إلى أن العصيان والتوبة من المتشابه، كسائر ما ورد في القصة مما لا يركن العقل إلى ظاهره، ولنا أن نقول: إن تلك مخالفة صدرت منه قبل أن يدركه عزم النبوة كما قال جل شأنه {فنسي ولم نجد له عزما} والاتفاق إنما هو على العصمة عن مخالفة الأوامر بعد النبوة. وقد يكون الذي وقع من آدم نسيانا، فسمي تفخيما لأمره عصيانا، والنسيان والسهو مما لا ينافي العصمة، فإن جعلنا الكلام كله تمثيلا فحديث الإخلال بالعصمة مما لا يمر بذهن العاقل.

وأما تفسير الآيات على طريقة الخلف في التمثيل فيقال فيه: إن القرآن كثيرا ما يصور المعاني بالتعبير عنها بصيغة السؤال والجواب، أو أسلوب الحكاية لما في ذلك من البيان والتأثير، فهو يدعو بها الأذهان، إلى ما وراءها من المعاني، كقوله تعالى {50: 30 يوم نقول لجهنم هل امتلأت؟ وتقول هل من مزيد} فليس المراد أن الله تعالى يستفهم منها وهي تجاوبه، وإنما هو تمثيل لسعتها وكونها لا تضيق بالمجرمين مهما كثروا، ونحوه قوله عز وجل بعد ذكر الاستواء إلى خلق السماء {41: 11 فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} والمعنى في التمثيل ظاهر.

(أقول) وهذا الأمر يسمى أمر التكوين، ويقابله أمر التشريع، وإنما سمي أمر التكوين للتعبير عنه في التنزيل بقوله تعالى {36: 82 إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} فهو تصوير لتعلق إرادة الربوبية بالإيجاد، ولا أذكر عن أحد من المفسرين المتبعين للأثر تصريحا بأن الأوامر في قصة آدم من أمر التكوين إلا للحافظ ابن كثير فإنه ذهب في تفسير {قال فاهبط منها} من سورة الأعراف إلى أن الأمر فيه أمر قدري كوني، ومثله ما في معناه من قصة آدم ومن الآيات الأخرى من مخاطبة إبليس للرب وجوابها في شأن إغوائه للبشر وإنظاره إلى يوم القيامة.

(قال الأستاذ الإمام ما مثاله) وتقرير التمثيل في القصة على هذا المذهب هكذا: إن إخبار الله الملائكة بجعل الإنسان خليفة في الأرض هو عبارة عن تهيئة الأرض وقوى هذا العالم وأرواحه التي بها قوامه ونظامه لوجود نوع من المخلوقات يتصرف فيها فيكون به كمال الوجود في هذه الأرض – وسؤال الملائكة عن جعل خليفة يفسد في الأرض لأنه يعمل باختياره ويعطى استعدادا في العلم والعمل لا حد لهما هو تصوير لما في استعداد الإنسان لذلك وتمهيد لبيان أنه لا ينافي خلافته في الأرض – وتعليم آدم الأسماء كلها بيان لاستعداد الإنسان لعلم كل شيء في هذه الأرض وانتفاعه في استعمارها – وعرض الأسماء على الملائكة وسؤالهم عنها وتنصلهم في الجواب تصوير لكون الشعور الذي يصاحب كل روح من الأرواح المدبرة للعوالم محدودا لا يتعدى وظيفته – وسجود الملائكة لآدم عبارة عن تسخير هذه الأرواح والقوى له ينتفع بها في ترقية الكون بمعرفة سنن الله تعالى في ذلك – وإباء إبليس واستكباره عن السجود تمثيل لعجز الإنسان عن إخضاع روح الشر وإبطال داعية خواطر السوء التي هي مثار التنازع والتخاصم، والتعدي والإفساد في الأرض – ولولا ذلك لجاء على الإنسان زمن سكون فيه أفراده كالملائكة بل أعظم، أو يخرجون عن كونهم من هذا النوع البشري.

هذا ملخص ما تقدم في سابق آيات القصة.

وأما التمثيل فيما نحن فيه منها فيصح عليه أن يراد بالجنة الراحة والنعيم، فإن من شأن الإنسان أن يجد في الجنة التي هي الحديقة ذات الشجر الملتف ما يلذ له من مرأى ومأكول ومشروب ومشموم ومسموع، في ظل ظليل، وهواء عليل، وماء سلسبيل، كما قال تعالى في القصة من سورة طه {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} ويصح أن يعبر عن السعادة بالكون في الجنة وهو مستعمل، ويصح أن يراد بآدم نوع الإنسان كما يطلق اسم أبي القبيلة الأكبر على القبيلة، فيقال كلب فعلت كذا ويراد قبيلة كلب، وكان من قريش كذا يعني القبيلة التي أبوها قريش، وفي كلام العرب كثير من هذا.

ويصح أن يراد بالشجرة معنى الشر والمخالفة كما عبر الله تعالى في مقام التمثيل عن الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، وفسرت بكلمة التوحيد، وعن الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، وفسرت بكلمة الكفر. وفي الحديث تشبيه المؤمن بشجرة النخل – ويصح أن يكون المراد بسكنى الجنة وبالهبوط منها أمر التكوين فقد تقدم أن الأمر الإلهي قسمان: أمر تكوين وأمر تكليف.

والمعنى على هذا: أن الله تعالى كون النوع البشري على ما نشاهده في الأطوار التدريجية التي قال فيها سبحانه {71: 14 وقد خلقكم أطوارا} فأولها طور الطفولية وهي لا هم فيها ولا كدر، وإنما هي لعب ولهو، كأن الطفل دائما في جنة ملتفة الأشجار، يانعة الثمار، جارية الأنهار، متناغية الأطيار، وهذا معنى {اسكن أنت وزوجك الجنة} وذكر الزوجة مع أن المراد بآدم النوع الآدمي للتنبيه على الشمول وعلى أن استعداد المرأة كاستعداد الرجل في جميع الشئون البشرية، فأمر آدم وحواء بالسكنى أمر تكوين، أي إنه تعالى خلق البشر ذكورا وإناثا هكذا – وأمرهما بالأكل حيث شاءا عبارة عن إباحة الطيبات وإلهام معرفة الخير – النهي عن الشجرة عبارة عن إلهام معرفة الشر، وأن الفطرة تهدي إلى قبحه ووجوب اجتنابه، وهذان الإلهامان اللذان يكونان للإنسان في الطور الثاني وهو طور التمييز هما المراد بقوله تعالى {90: 11 وهديناه النجدين} وسوسة الشيطان وإزلاله لهما عبارة عن وظيفة تلك الروح الخبيثة التي تلابس النفوس البشرية فتقوى فيها داعية الشر، أي إن إلهام التقوى والخير أقوى في فطرة الإنسان أو هو الأصل، ولذلك لا يفعل الشر إلا بملابسة الشيطان له ووسوسته إليه – والخروج من الجنة مثال لما يلاقيه الإنسان من البلاء والعناء بالخروج عن الاعتدال الفطري – وأما تلقي آدم الكلمات وتوبته فهو بيان لما عرف في الفطرة السليمة من الاعتبار بالعقوبات التي تعقب الأفعال السيئة، ورجوعه إلى الله تعالى عند الضيق والتجائه إليه في الشدة. وتوبة الله تعالى عليه عبارة عن هدايته إياه إلى المخرج من الضيق، والتفلت من شرك البلاء، بعد ذلك الاعتبار والالتجاء، وذكر توبة الله على الإنسان ترد ما عليه النصارى من اعتقاد أن الله تعالى قد سجل معصية آدم عليه وعلى بنيه إلى أن يأتي عيسى ويخلصهم منها وهو اعتقاد تنبذه الفطرة، ويرده الوحي المحكم المتواتر.

فحاصل القول: أن الأطوار الفطرية للبشر ثلاثة. طور الطفولة وهو طور نعيم وراحة، وطور التمييز الناقص وفيه يكون الإنسان عرضة لإتباع الهوى بوسوسة الشيطان، وطور الرشد والاستواء وهو الذي يعتبر فيه بنتائج الحوادث، ويلتجئ فيه عند الشدة إلى القوة الغيبية العليا التي منها كل شيء وإليها يرجع الأمر كله، فهكذا كان الإنسان في أفراده مثال للإنسان في مجموعه (قال الأستاذ) كأن تدرج الإنسان في حياته الاجتماعية ابتدأ ساذجا سليم الفطرة، قويم الوجهة، مقتصرا في طلب حاجاته على القصد والعدل، متعاونا على دفع ما عساه يصيبه من مزعجات الكون وهذا هو العصر الذي يذكره جميع طوائف البشر ويسمونه بالذهبي.

ثم لم يكفه هذا النعيم المرفه فمد بعض أفراده أيديهم إلى تناول ما ليس لهم، طاعة للشهوة، وميلا مع خيال اللذة، وتنبه من ذلك ما كان نائما في نفوس سائرهم فثار النزاع، وعظم الخلاف، واستنزل الشقاء، وهذا هو الطور الثاني وهو معروف في تاريخ الأمم ثم جاء الطور الثالث وهو طور العقل والتدبر، ووزن الخير والشر بميزان النظر والفكر، وتحديد حدود للأعمال إليها نزعات الشهوات، ويقف عندها سير الرغبات، وهو طور التوبة والهداية إن شاء الله.

(وأقول الآن) إن توبة آدم عليه السلام بناء على تفسير القصة بحمل الكلام على الحقيقة قد كانت بالرجوع إلى الله واعترافه مع حواء بظلمهما لأنفسهما وطلبهما المغفرة والرحمة منه تعالى، لا بمجرد تدبر العقل ووزن الخير والشر بميزان الفكر الخ ما قاله شيخنا هنا تبعا لبعض علماء الاجتماع من المؤرخين، وقد بين هو في بحث الحاجة إلى الرسالة من رسالة التوحيد أن عقل البشر لا يستقل بوضع حدود للأعمال تنتهي إليها نزغات الشهوات؛ ويقف عندها سير الأهواء والرغبات، بل لا بد من تشريع إلهي لذلك، ولكنه أوجز هنا فترك المسألة مبهمة مظلمة، وإننا نرى أن طور العقل والفكر قد بلغ في هذا العصر مرتقى لم يعرف في التاريخ ما يقربه، ووضع علماؤه وحكماؤه شرائع وقوانين لإيقاف التنازع والتخاصم عند حد لا يتفاقم شره، ثم نرى أعلم هذه الأمم ودولها مبعث الشرور والشقاوة، والخبث والرياء والحروب والفتن، فلا هداية إلا هداية الدين الإلهي الذي تذعن له الأنفس بمحض العبودية لله تعالى.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فالتعبير ب (تلقى) هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له فعلم أنها ليست كلمات زجر وتوبيخ بل كلمات عفو ومغفرة ورضى وهي إما كلمات لقنها آدم من قبل الله تعالى ليقولها طالباً المغفرة وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن أهبطه من الجنة اكتفاء بذلك في العقوبة، ومما يدل على أنها كلمات عفو عطف {فتاب عليه} بالفاء إذ لو كانت كلمات توبيخ لما صح التسبب. وتلقي آدم للكلمات إما بطريق الوحي أو الإلهام. ولهم في تعيين هذه الكلمات روايات أعرضنا عنها لقلة جدوى الاشتغال بذلك، فقد قال آدم الكلمات فتيب عليه فلنهتم نحن بما ينفعنا من الكلام الصالح والفعل الصالح...

ولم تذكر توبة حواء هنا مع أنها مذكورة في مواضع أخرى نحو قوله: {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23] لظهور أنها تتبعه في سائر أحواله وأنه أرشدها إلى ما أرشد إليه، وإنما لم يذكر في هذه الآية لأن الكلام جرى على الابتداء بتكريم آدم وجعله في الأرض خليفة فكان الاعتناء بذكر تقلباته هو الغرض المقصود...

وأصل معنى تاب رجع ونظيره ثاب بالمثلثة، ولما كانت التوبة رجوعاً من التائب إلى الطاعة ونبذاً للعصيان وكان قبولها رجوعاً من المتوب إليه إلى الرضى وحسن المعاملة وصف بذلك رجوع العاصي عن العصيان ورجوع المعصي عن العقاب فقالوا تاب فلان لفلان فتاب عليه لأنهم ضمنوا الثاني معنى عطف ورضى فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدى به وكان أصله مبنياً على المشاكلة.

والتوبة تتركب من علم وحال وعمل، فالعلم هو معرفة الذنب والحال هو تألم النفس من ذلك الضرر ويسمى ندماً، والعمل هو الترك للإثم وتدارك ما يمكن تداركه وهو المقصود من التوبة، وأما الندم فهو الباعث على العمل ولذلك ورد في الحديث:"الندم توبة" قاله الغزالي، قلت: أي لأنه سببها ضرورة أنه لم يقصر لأن أحد الجزءين غير معرفة.

ثم التعبير بتاب عليه هنا مشعر بأن أكل آدم من الشجرة خطيئة إثم غير أن الخطيئة يومئذ لم يكن مرتباً عليها جزاءُ عقاب أخروي ولا نقص في الدين ولكنها أوجبت تأديباً عاجلاً لأن الإنسان يومئذ في طور كطور الصبا فلذلك لم يكن ارتكابها بقادح في نبوءة آدم على أنها لا يظهر أن تعد من الكبائر بل قصارها أن تكون من الصغائر إذ ليس فيها معنى يؤذن بقلة اكتراث بالأمر ولا يترتب عليه فساد، وفي عصمة الأنبياء من الصغائر خلاف... على أن نبوءة آدم فيما يظهر كانت بعد النزول إلى الأرض فلم تكن له عصمة قبل ذلك إذ العصمة عند النبوءة.

وعندي وبعضه مأخوذ من كلامهم أن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف بالمعنى المتعارف عند أهل الشرائع بل عالم تربية فقط فتكون خطيئة آدم ومعصيته مخالفة تأديبية ولذلك كان الجزاء عليها جارياً على طريقة العقوبات التأديبية بالحرمان مما جره إلى المعصية، فإطلاق المعصية والتوبة وظلم النفس على جميع ذلك هو بغير المعنى الشرعي المعروف بل هي معصية كبيرة وتوبة بمعنى الندم والرجوع إلى التزام حسن السلوك، وتوبة الله عليه بمعنى الرضى لا بمعنى غفران الذنوب، وظلم النفس بمعنى التسبب في حرمانها من لذات كثيرة بسبب لذة قليلة فهو قد خالف ما كان ينبغي أن لا يخالفه ويدل لذلك قوله بعد ذلك: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي إلى قوله خالدون} [البقرة: 38، 39] فإنه هو الذي بين به لهم أن المعصية بعد ذلك اليوم جزاؤها جهنم فأورد عليّ بعض الحذاق من طلبة الدرس أنه إذا لم يكن العالم عالم تكليف فكيف كفر إبليس باعتراضه وامتناعه من السجود؟ فأجبته بأن دلالة ألوهية الله تعالى في ذلك العالم حاصلة بالمشاهدة حصولاً أقوى من كل دلالة زيادة على دلالة العقل لأن إبليس شاهد بالحس الدلائل على تفرده تعالى بالألوهية والخلق والتصرف المطلق وبعلمه وحكمته واتصافه بصفات الكمال كما حصل العلم بمثله للملائكة فكان اعتراضه على فعله والتغليط إنكاراً لمقتضى تلك الصفات فكان مخالفة لدلائل الإيمان فكفر به. وأما الأمر والنهي والطاعة والمعصية وجزاء ذلك فلا يتلقى إلا بالإخبارات الشرعية وهي لم تحصل يومئذ وإنما حصلت بقوله تعالى لهم: {فمن تبع هداي} الآية فظهر الفرق.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

نزل آدم وحواء إلى الأرض ليمارسا مهمتهما في الكون. وقبل أن يبدأ هذه المهمة. جعلهما الله سبحانه وتعالى يمران بتجربة عملية بالنسبة لتطبيق المنهج وبالنسبة لإغواء الشيطان. وحذرهما بأن الشيطان عدو لهما.. كان لابد بعد أن وقعت المعصية أن يشرع الله تعالى التوبة رحمة بعباده. ذلك أن تشريع التوبة ليس رحمة بالعاصي وحده، ولكنه رحمة بالمجتمع كله. فالإنسان إذا عصى وعرف أنه.. لا توبة له وأنه محكوم عليه بالخلود في النار. يتمادى في إجرامه. لأنه مادام لا أمل له في النجاة من عذاب الآخرة. فإنه يتمادى في المعصية. لأنه لا أمل في الغفران أو التوبة..

من الذي سيعاني في هذه الحالة؟ إنه المجتمع الذي يعيش فيه ذلك العاصي. وسيكون المؤمنون أكثر الناس معاناة لأنهم أهل خير وتسامح. ولأن الله سبحانه وتعالى.. أمرهم بالعفو. والصفح. واقرأ قوله تبارك وتعالى:

{ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم "22 "} (سورة النور).

وقوله تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم} (من الآية 237 سورة البقرة).

وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم تحث المؤمنون على العفو. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أوصاني ربي بتسع أوصيكم بها:

أوصاني بالإخلاص في السر وفي العلانية. والقصد في الغنى والفقر وأن أعفو عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأصل من قطعني، وأن يكون صمتي فكرا ونطقي ذكرا، ونظري عبرا "

فالتوبة لو لم تشرع لعانى المجتمع كله. وخاصة المؤمنين الذي أمروا أن يقابلوا العدوان بالصفح والظلم بالعفو. ولذلك كان تشريع التوبة من الله سبحانه وتعالى. رحمة بالناس كلهم. والله جل جلاله شرع التوبة أولا. ثم بعد أن شرعها تاب العاصي. ثم بعد ذلك يقبل الله التوبة أو لا يقبلها تبعا لمشيئته. واقرأ قوله تعالى:

{ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم} (من الآية 118 سورة التوبة).

آدم تلقى من ربه كلمات فتاب عليه. أتوجد خطيئة بعد توبة آدم وقبول الله سبحانه وتعالى هذه التوبة؟ إن بعض الناس يقول إن آدم قد عصى وتاب الله عليه. وإبليس قد عصى فجعله الله خالدا في النار. نقول: إنكم لم تفهموا ماذا فعل آدم؟ أكل من الشجرة المحرمة. وعندما علم أنه أخطأ وعصى. لم يصر على المعصية. ولم يرد الأمر على الآمر. ولكنه قال يا رب أمرك ومنهجك حق. ولكنني لم أقدر على نفسي فسامحني.

اعترف آدم بذنبه. وأعترف بضعفه. واعترف بأن المنهج حق. وطلب التوبة من الله سبحانه وتعالى. ولكن إبليس رد الأمر على الآمر. قال: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} وقال {لأقعدن لهم صراطك المستقيم} وقال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} وقال: {لأحتنكن ذريته إلا قليلا} فإبليس هنا رد الأمر على الآمر. لم يعترف بذنبه. ويقول يا رب غلبني ضعفي. وأنت الحق وقولك الحق. ولكنه رد الأمر على الله تعالى وعاند وقال سأفعل كذا وسأفعل كذا. وهذا كفر بالله.

إياك أن ترد الأمر على الله سبحانه وتعالى. فإذا كنت لا تصلي.. فلا تقل وما فائدة الصلاة. وإذا لم تكن تزكي. فلا تقل تشريع الزكاة ظلم للقادرين. وإذا كنت لا تطبق شرع الله. فلا تقل إن هذه الشريعة لم تعد تناسب العصر الحديث. فإنك بذلك تكون قد كفرت والعياذ بالله. ولكن قل يا ربي إن فرض الصلاة حق. وفرض الزكاة حق. وتطبيق الشريعة حق. ولكنني لا أقدر على نفسي. فأرحم ضعفي يا رب العالمين. إن فعلت ذلك. تكن عاصيا فقط.

إن الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس. أن آدم اعترف بمعصيته وذنبه. ولكن إبليس رد الأمر على الآمر. فيكون آدم قد عصى، وإبليس قد كفر والعياذ بالله. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه} هذه الكلمات التي تلقاها آدم. أراد العلماء أن يحصروها. ما هذه الكلمات؟ هل هي قول آدم كما جاء في قوله تعالى:

{قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين "23 "} (سورة الأعراف).

هذه الآية الكريمة. دلتنا على أن ذنب آدم لم يكن من ذنوب الاستكبار. ولكن من ذنوب الغفلة.. بينما كان ذنب إبليس من ذنوب الاستكبار على أمر الله. ولكن آدم عندما عصى حدث منه انكسار. فقال: يا ربي أمرك بألا أقرب الشجرة حق. ولكني لم أقدر على نفسي. فآدم أقر بحق الله في التشريع. بينما إبليس اعترض على هذا الأمر وقال: "أأسجد لمن خلقت طينا "

الكلمات التي تلقاها آدم من الله سبحانه وتعالى قد تكون: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وقد تكون:.. اللهم لا إله إلا أنت سبحانك ربي وبحمدك. إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا فاغفر لي يا خير الغافرين.. أو اقبل توبتي يا خير التوابين.. أو قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله.. المهم أن الله سبحانه وتعالى قد أوحى لآدم بكلمات يتقرب بها إليه. سواء كانت هذه الآية الكريمة أو كلمات أخرى.

لو نظرنا إلى تعليم الله آدم لكلمات ليتوب عليه. لوجدنا مبدأ مهما في حياة المجتمع. لأن الله سبحانه وتعالى كما قلنا.. لو لم يشرع التوبة ولو لم يبشرنا بأنه سيقبلها. لكان الذي يذنب ذنبا واحدا لا يرجع عن المعصية أبدا. وكان العالم كله سيعاني..

والله سبحانه وتعالى خلقنا مختارين ولم يخلقنا مقهورين. القهر يثبت صفة القدرة لله، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد منا أن نأتي عن حب وليس عن قهر. ولذلك خلقنا مختارين. وجعل لنا طاقة تستطيع أن تعصي وأن تطيع. ومادام هناك اختيار.. فالإنسان يختار هذه أو تلك..

إن الله لم يخلق بشرا يختارون الخير على طول الخط. وبشرا يختارون الشر في كل وقت. فهناك من الخيرين من يقع في الشر مرة، وهناك من الشريرين من يعمل الخير مرة. فالعبد ليس مخلوقا أن يختار خيرا مطلقا. أو أن يختار شرا مطلقا.. ولذلك فأحيانا ننسى أو نسهو. أو نعصي. ومادام العبد معرضا للخطيئة. فالله سبحانه وتعالى شرع التوبة. حتى لا ييأس العبد من رحمة الله، ويتوب ليرجع إلى الله. وقد جاء في الحكمة:"رب معصية أورثت ذلا وانكسارا. خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا".

وهكذا عندما نزل آدم ليباشر مهمته في الحياة. لم يكن يحمل أي خطيئة على كتفيه.. فقد أخطأ وعلمه الله تعالى كلمات التوبة. فتاب فتقبل الله توبته.. وقوله سبحانه وتعالى: {إنه هو التواب الرحيم}.. كلمة تواب تدل على أن الله تعالى لا يأخذ عباده بذنب واحد. لأنه سبحانه وتعالى حتى لو تاب عن ذنب واحد لكل عبد من عباده كان توابا. والمبالغة في الصفة تأتي من ناحتين. أولا أن الأمر يتكرر عدة مرات من عدد قليل من الأشخاص. أو من شخص واحد. أو أن الأمر يقع مرة واحدة ولكن من أشخاص كثيرين..