المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

5- فإذا انقضت مدة الأمان - الأشهر الأربعة - فاقتلوا المشركين الناقضين للعهد في كل مكان ، وخذوهم بالشدة ، واضربوا الحصار عليهم بسد الطرق ، واقعدوا لهم في كل سبيل ، فإن تابوا عن الكفر ، والتزموا أحكام الإسلام بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فلا سبيل لكم عليهم لدخولهم في دين الله ، والله عظيم المغفرة لمن تاب ، واسع الرحمة بعباده .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (5)

وقوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } الآية ، الانسلاخ خروج فالشيء عن الشيء المتلبس به كانسلاخ الشاة عن الجلد والرجل عن الثياب ، ومنه قوله تعالى : { نسلخ منه النهار }{[5514]} فشبه انصرام الأشهر أسمائها وأحكامها من الزمن بذلك{[5515]} ، وقد تقدم القول فيمن جعل له انقضاء الأشهر الحرم أجلاً وما المعنى ب { الأشهر الحرم } بما أغنى عن إعادته ، وقوله { فاقتلوا المشركين } . أمر بقتال المشركين فخرج الأمر بذلك بلفظ اقتلوا على جهة التشجيع وتقوية النفس ، أي هكذا يكون أمركم معهم ، وهذه الآية نسخت كل موادعة في القرآن أو مهادنة وما جرى مجرى ذلك وهي على ما ذكر مائة آية وأربع عشرة آية ، وقال الضحاك والسدي وعطاء : هذه الآية منسوخة بقوله { فإما منّاً بعد وإما فداء }{[5516]} وقالوا لا يجوز قتل أسير البتة صبراً إما أن يمن عليه وإما أن يفادى ، وقال قتادة ومجاهد وغيرهما : قوله { فإما منّاً بعد وإما فداء } [ محمد : 47 ] منسوخ بهذه الآية ، وقالوا لا يجوز المن على أسير ولا مفاداته ، ولا شيء إلا القتل ، وقال ابن زيد : هما محكمتان .

قال القاضي أبو محمد : ولم يفسر أكثر من هذا ، و قوله هو الصواب ، والآيتان لا يشبه معنى واحدة ، معنى الأخرى ، وذلك أن هذه الآية قوله { فاقتلوا المشركين } { وخذوهم واحصروهم } أفعال إنما تمتثل مع المحارب المرسل المناضل ، وليس للأسير فيها ذكر ولا حكم وإذا أخذ الكافر خرج عن درجات هذه الآية وانتقل إلى حكم الآية الأخرى ، وتلك الآية لا مدخل فيها لغير الأسير ، فقول ابن زيد هو الصواب ، وقوله { خذوهم } معناه الأسر ، وقوله { كل مرصد } معناه في مواضع الغرة حيث يرصدون ، وقال النابغة{[5517]} : [ الطويل ]

أعاذل إن الجهل من لذة الفتى*** وإن المنايا للنفوس بمرصد{[5518]}

ونصب { كل } على الظرف ، وهو اختيار الزجّاج ، أو بإسقاط الخافض التقدير في كل مرصد ، أو على كل مرصد ، وحكى سيبويه ضرب الظهر والبطن{[5519]} ، وقوله تعالى : { فإن تابوا } يريد من الكفر فهي متضمنة الإيمان ، ثم قرن بها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيهاً على مكان الصلاة والزكاة من الشرع{[5520]} ، وقوله { فخلوا سبيلهم } تأمين ، وقال أنس بن مالك : هذا هو دين الله الذي جاءت به الرسل وهو من آخر ما نزل قبل اختلاف الأهواء ، وفيه قال النبي صلى الله عليه : «من فارق الدنيا مخلصاً لله تعالى مطيعاً له لقي الله وهو عنه راض »{[5521]} ثم وعد بالمغفرة في صيغة الخبر عن أوصافه تعالى .


[5514]:- من الآية (37) من سورة (يس).
[5515]:- يقال: سلخت الشهر إذا صرت في أواخر أيامه، قال أبو الهيثم: يقال: أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه فنحن نزداد كل ليلة إلى مُضيّ نصفه لباسا منه، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءا فجزءا حتى نسلخه كله، وأنشد: إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قائلا سلخي الشهور وإهلالي ويقال أيضا: سلخت المرأة درعها: نزعته.
[5516]:- من الآية (4) من سورة (محمد).
[5517]:- البيت لعدي بن ويد، وقد نسبه القرطبي للنابغة أيضا، ونسبه في اللسان لعدّي بن زيد وهو الصواب، وهو من قصيدة مطلعها: أتعرف رسم الدار من أم معبد؟ نعم، ورماك الشوق قبل التجلد.
[5518]:-العدل: اللوم، والعاذل هنا زوجه، وقد أشار إليها في بيت آخر قبل هذا يقول فيه: وعاذلة هبّت بليل تلومني فلما غلّت في اللوم قلت لها اقصدي ويروى الشطر الثاني: (وإن المنايا للرجال بمرصد). والمعنى: إن المرء قد يطلب اللذة جهلا إذ يتوهم فيها السعادة في حين أنها تنتهي به إلى التعاسة، وإن الموت يترصد الناس ويتربص بهم لينقض عليهم.
[5519]:- المرصد: مفعل من رصد يرصد بمعنى رقب- يكون مصدرا وزمانا ومكانا، قال عامر بن الطفيل: ولقد علمت وما إخالك ناسيا أن المنيّة للفتى بالمرصد وقال الزمخشري: {كل مرصد}: كل ممرّ ومجتاز ترصدونهم فيه، وانتصابه على الظرف كقوله تعالى: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم}. وقال الزجاج : مرصد: ظرف كقولك: ذهبت مذهبا، وردّه أبو علي الفارسي لأن المرصد هو المكان الذي يرصد فيه العدو فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعا كما حكى سيبويه: دخلتُ البيتَ، وكقول الشاعر: كما عَسَل الطريقَ الثّعلبُ، قال أبو حيان الأندلسي ردا على الفارسي: يصح انتصابه على الظرف لأن قوله: [واقعدوا] ليس معناه حقيقة القُعود، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه، ومتى كان العامل من لفظ الظرف أو معناه جاز أن يعمل فيه بغير واسطة: تقول: "جلست مجلس زيد وقعدت مجلس زيد" تريد: في مجلس زيد. هذا والذي قدّر الواسطة المحذوفة (على) هو الأخفش قال: معناه: على كل مرصد- فحذف الحرف وأعمل الفعل- والذي عليه النحاة أن حذف الحرف وإعمال الفعل مخصوص بالشعر، كقول الشاعر: تحنّ فتبدي ما بها من صبابة وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني أي: لقضى عليّ
[5520]:-هذا هو التعليل الذي يراه ابن عطية لذكر الصلاة والزكاة بعد التوبة أو معها، ولكن كثيرا من العلماء يرون رأيا آخر هو أن الله تعالى علّق القتل على الشرك، ثم قال: {فإن تابوا} وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة من غير اعتبار لشيء آخر كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين هما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فلا سبيل إلى إلغائهما، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، قال ابن العربي: فانتظم القرآن والسنة واطّراد، ويرى العلماء أن ذلك فيمن يترك الصلاة والزكاة مستحلا لذلك. وقد يلتقي تعليل ابن عطية برأي العلماء عند التأمل والنظر الدقيق.
[5521]:- أخرجه ابن جرير عن أنس ولكن بلفظ: (من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا يشرك به شيئا فارقها والله راض عنه).