قوله تعالى : { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة ، فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج ، فكرهه بعضهم ، فأنزل الله عز وجل { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } أي : لا تدع جهاد العدو ، والانتصار للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك ، فإن الله قد وعدك النصرة . وعاتبهم على ترك القتال ، والفاء في قوله تعالى : { فقاتل } جواب عن قوله { ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } فقاتل .
قوله تعالى : { وحرض المؤمنين } ، على القتال ، أي حضهم على الجهاد ، ورغبهم في الثواب ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكباً ، فكفاهم الله القتال ، فقال جل ذكره : قوله تعالى : { عسى الله } أي : لعل الله .
قوله تعالى : { أن يكف بأس الذين كفروا } ، أي : قتال المشركين وعسى من الله واجب .
قوله تعالى : { والله أشد بأساً } أي : أشد صولة وأعظم سلطاناً .
تفريع على ما تقدّم من الأمر بالقتال ، ومن وصف المثبطين عنه ، والمتذمّرين منه ، والذين يفتنون المؤمنين في شأنه ، لأنّ جميع ذلك قد أفاد الاهتمام بأمر القتال ، والتحريضَ عليه ، فتهيّأ الكلام لتفريع الأمر به . ولك أن تجعل الفاء فصيحة بعد تلك الجمل الكثيرة ، أي : إذا كان كما علمت فقاتل في سبيل الله ، وهذا عود إلى ما مضى من التحريض على الجهاد ، وما بينهما اعتراض . فالآية أوجبت على الرسول صلى الله عليه وسلم القتال ، وأوجبت عليه تبليغ المؤمنين الأمرَ بالقتال وتحريضهم عليه ، فعبّر عنه بقوله : { لا تكلَّفُ إلاّ نفسَك وحرِّض المؤمنين } [ النساء : 84 ] وهذا الأسلوب طريق من طرق الحثّ والتحريض لِغير المخاطب ، لأنّه إيجاب القتال على الرسول ، وقد علم إيجابه على جميع المؤمنين بقوله : { فليقاتل في سبيل الله الذين يَشرون الحياة الدنيا بالآخرة } [ النساء : 74 ] فهو أمر للقدوة بما يجب اقتداء الناس به فيه . وبيّن لهم علّة الأمر وهي رجاء كفّ بأس المشركين ، ف ( عسى ) هنا مستعارة للوعد . والمراد بهم هنا كفّار مكة ، فالآيات تهيئة لِفتح مكة .
وجملة { والله أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً } تذييل لتحقيق الرجاء أو الوعد ، والمعنى أنه أشدّ بأساً إذا شاء إظهار ذلك ، ومن دلائل المشيئة امتثال أوامره التي منها الاستعداد وترقّب المسببات من أسبابها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فقاتل في سبيل الله}، فأمره أن يقاتل بنفسه، {لا تكلف إلا نفسك}: ليس عليك ذنب غيرك، {وحرض المؤمنين}: وحرض على القتال، يعني على قتال العدو، {عسى الله أن يكف بأس}: قتال {الذين كفروا والله أشد بأسا}: أخذا، {وأشد تنكيلا}: نكالا، يعني عقوبة من الكفار، ولو لم يطع النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من الكفار، لكفاه الله عز وجل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{فقَاتِلْ في سَبِيلِ الله لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ}: فجاهد يا محمد أعداء الله من أهل الشرك به في سبيل الله، يعني: في دينه الذي شرعه لك، وهو الإسلام، وقاتلهم فيه بنفسك.
{لا تُكَلّفُ إلاّ نَفْسَكَ}: لا يكلفك الله فيما فرض عليك من جهاد عدوّه وعدوّك، إلا ما حملك من ذلك دون ما حمل غيرك منه: أي إنك إنما تتبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك، وإنما عليك ما كلفته دون ما كلفه غيرك. {وَحَرّضِ المُؤْمِنِينَ}: وحضهم على قتال من أمرتك بقتالهم معك.
{عَسَى اللّهُ أنْ يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُوا}: لعلّ الله أن يكفّ قتال من كفر بالله وجحد وحدانيته، وأنكر رسالتك عنك وعنهم ونكايتهم. وقد بينا فيما مضى أن «عسى» من الله واجبة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. {واللّهُ أشَدّ بَأْسا وأشَدّ تَنْكِيلاً}: والله أشدّ نكاية في عدوّه من أهل الكفر به منهم فيك يا محمد وفي أصحابك، فلا تنكُلَنّ عن قتالهم، فإني راصدهم بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة، لأوهن كيدهم وأضعف بأسهم وأعلي الحقّ عليهم. والتنكيل مصدر من قول القائل: نكلت بفلان، فأنا أنكّل به تنكيلاً: أذا أوجعته عقوبة.
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
لمن الخطاب في قوله: {في سبيل الله}؟
هذا خطاب متوجه إلى كل مسلم، فكل أحد مأمور بالجهاد، وإن لم يكن معه أحد. قال تعالى: {انفروا خفافا وثقالا}، وقال تعالى: {فانفروا ثبات أو انفروا جميعا} ).
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
هذا خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) خاصة أمره الله أن يقاتل في سبيل الله وحده بنفسه. وقوله:"لا تكلف إلا نفسك" ومعناه لا تكلف إلا فعل نفسك، لأنه لا ضرر عليك في فعل غيرك فلا تهتم بتخلف المنافقين عن الجهاد فعليهم ضرر ذلك، وليس المراد لا يأمر أحدا بالجهاد. وانما أراد ما قلناه ألا ترى أنه قال "وحرض المؤمنين "على القتال يعني حثهم على الجهاد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} إن أفردوك وتركوك وحدك {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} غير نفسك وحدها أن تقدّمها إلى الجهاد، فإنّ الله هو ناصرك لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف. وقيل: دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج، وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت، فخرج وما معه إلا سبعون لم يلوِ على أحد، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده...
{وَحَرِّضِ المؤمنين} وما عليك في شأنهم إلا التحريض فحسب، لا التعنيف بهم. {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} وهم قريش، وقد كف بأسهم فقد بدا لأبي سفيان وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم.
{والله أَشَدُّ بَأْساً} من قريش. {وَأَشَدُّ تَنكِيلاً}: تعذيباً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي عليه السلام وحده، لكن لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة مدة ما، المعنى -والله أعلم- أنه خطاب للنبي عليه السلام في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له {قاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده، ومن ذلك قول النبي عليه السلام «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي» وقول أبي بكر وقت الردة: «ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي»، وخلط قوم في تعلق الفاء من قوله {فقاتل} بما فيه بعد، والوجه أنها عاطفة جملة كلام على جملة، وهي دالة على اطراح غير ما أمر به، ثم خص النبي عليه السلام بالأمر بالتحريض أي الحث على المؤمنين في القيام بالفرض الواجب عليهم. و {عسى} إذا وردت من الله تعالى فقال عكرمة وغيره: إنها واجبة، لأنها من البشر متوقعة مرجوة ففضل الله تعالى يوجب وجوبها، وفي هذا وعد للمؤمنين بغلبتهم للكفرة، ثم قوى بعد ذلك، قلوبهم بأن عرفهم شدة بأس الله، وأنه أقدر على الكفرة، {وأشد تنكيلاً} لهم، التنكيل: الأخذ بأنواع العذاب وترديده عليهم...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْقِتَالَ فَرْضٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا وَحْدَهُ، وَنَدَبَ الْمُؤْمِنِينَ إلَيْهِ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا سِرَاعًا إلَى الْقِتَالِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْقِتَالِ كَاعَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْقِتَالُ؛ {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً}، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: قَدْ بَلَّغْت: قَاتِلْ وَحْدَكَ، {لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} فَسَيَكُونُ مِنْهُمْ مَا كَتَبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِهِمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ، فَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْ مَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ لَنَصَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دُونَهُمْ، وَهَلْ نَصْرُهُ مَعَ قِتَالِهِمْ إلَّا بِجُنْدِهِ الَّذِي لَا يُهْزَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا. قُلْت: أَيْ رَبِّ؛ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً. قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُعِنْكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ».
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الرِّدَّةِ: «أُقَاتِلُهُمْ وَحْدِي حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي». وَفِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ: «وَاَللَّهِ لَوْ خَالَفَتْنِي شِمَالِي لَقَاتَلْتهَا بِيَمِينِي».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، أَيْ عَلَى الْقِتَالِ:
التَّحْرِيضُ وَالتَّحْضِيضُ هُوَ نَدْبُ الْمَرْءِ إلَى الْفِعْلِ، وَقَدْ يُنْدَبُ الْمَرْءُ إلَى الْفِعْلِ ابْتِدَاءً، وَقَدْ يُنْدَبُ إلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَذْكِرَةً بِهِ لَهُ.
اعلم أنه تعالى لما أمر بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب في الآيات المتقدمة، وذكر في المنافقين قلة رغبتهم في الجهاد، بل ذكر عنهم شدة سعيهم في تثبيط المسلمين عن الجهاد، عاد في هذه الآية إلى الأمر بالجهاد فقال: {فقاتل في سبيل الله} وفي الآية مسائل:
المسألة الثالثة: دلت الآية على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو صلى الله عليه وسلم موصوف بهذه الصفات، ولقد اقتدى به أبو بكر رضي الله عنه حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة، ومن علم أن الأمر كله بيد الله وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل ذلك عليه...
ثم قال: {عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: عسى: حرف من حروف المقاربة وفيه ترج وطمع، وذلك على الله تعالى محال. والجواب عنه أن «عسى» معناها الإطماع، وليس في الأطماع أنه شك أو يقين، وقال بعضهم: إطماع الكريم إيجاب.
المسألة الثانية: الكف المنع، والبأس أصله المكروه، يقال ما عليك من هذا الأمر بأس أي مكروه، ويقال بئس الشيء هذا إذا وصف بالرداءة، وقوله: {بعذاب بئيس} أي مكروه، والعذاب قد يسمى بأسا لكونه مكروها، قال تعالى: {فمن ينصرنا من بأس الله} {فلما أحسوا بأسنا} قال المفسرون: عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا، وقد كف بأسهم، فقد بدا لأبي سفيان وقال هذا عام مجدب وما كان معهم زاد إلا السويق، فترك الذهاب إلى محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم...
إذا عرفت هذا فنقول: الآية دالة على أن عذاب الله وتنكيله أشد من عذاب غيره ومن تنكيله، وأقبل الوجوه في بيان هذا التفاوت أن عذاب غير الله لا يكون دائما، وعذاب الله دائم في الآخرة، وعذاب غير الله قد يخلص الله منه، وعذاب الله لا يقدر أحد على التخلص منه، وأيضا عذاب غير الله لا يكون إلا من وجه واحد، وعذاب الله قد يصل إلى جميع الأجزاء والأبعاض والروح والبدن...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
تقدم أن الآيات في وصف أولئك الضعفاء، ولما قال إن الرسول ليس حفيظا عليهم وإنما هو مبلغ عن الله تعالى أيد هذا وأوضحه بقوله: {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين} أي إنك أنت المكلف أن تقاتل في سبيل الله (وتقدم تفسيرها) والرقيب على نفسك فقم بما يجب عليك بالعمل وحرض المؤمنين على القتال معك لأن التحريض من التبليغ الذي منه الأمر والنهي {عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا} عسى هنا تدل على الإعداد والتهيئة لأن الترجي الحقيقي محال على العالم بكل شيء فهي بمعنى الخبر والوعد وخبره تعالى حق لأنه لا يخلف الميعاد. والبأس القوة، وكان بأس الكافرين، موجها إلى إذلال المؤمنين، لأجل الإيمان لا لذواتهم وأشخاصهم، فتأييد الإيمان متوقف على كف بأسهم، وكفه متوقف على تصدي المؤمنين للجهاد.
أقول: سبق غير مرة تفسير الأستاذ لكلمة عسى بمثل هذا وحاصل المعنى أن تحريض النبي للمؤمنين على القتال معه هو الذي يحملهم بباعث الإيمان والإذعان النفسي دون الإلزام والسيطرة على الاستعداد له وتوطين النفس عليه، وذلك هو الذي يوطن نفوس الكافرين على كف بأسهم عن المؤمنين ويعدهم لترك الاعتداء عليهم، لأنه لا شيء أدعى إلى ترك القتال من الاستعداد للقتال، وعلى هذه القاعدة جرى عمل دول أوروبة في هذا العصر وبه يصرحون. تبذل كل دولة منتهى ما في وسعها من اتخاذ آلات القتال في البر والبحر وتنظيم الجيوش لتكون القوى الحربية بينهن متوازنة فلا تطمع القوية في الضعيفة فيغريها ضعفها بالإقدام على محاربتها.
وجعل عسى للترجي لا يقتضي أن يكون المترجي هو الله عز وجل وإنما يكون المعنى أن ما دخلت عليه مرجو في نفسه. بحسب سنة الله في خلقه.
{والله أشد بأسا وأشد تنكيلا} أي لا يخيفنكم أيها المؤمنون بأس هؤلاء الكافرين وشدتهم ولا تصدنكم عن طاعة الرسول والعمل بتحريضه مذعنين مختارين فإن الله تعالى الذي وعده بالنصر أشد بأسا منهم وأشد تنكيلا لهم مما يحاولون أن ينكلوا بكم، ولكن سنته سبقت بأن تكون العاقبة لأهل الحق إذا اتقوا أسباب الخذلان، واتخذوا أسباب الدفاع مع الصبر والثبات، لا أنه ينصرهم وهم قاعدون أو مقصرون في الجري على سنته التي لا تبديل لها ولا تحويل، والتنكيل أن تعاقب المجرم بما يكون عبرة ونكالا لغيره يمنعه أن يجرم مثل إجرامه، وهو من النكول بمعنى الامتناع.
ويؤخذ من الآية أن الله تعالى كلف نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الكافرين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وبأسهم وإن كان وحده وهي تدل على أنه أعطاه من الشجاعة ما لم يعط أحدا من العالمين، وسيرته صلى الله عليه وسلم تدل على ذلك فهو قد تصدى لمقاومة الناس كلهم بدعوتهم إلى ترك ما هم عليه من الضلال، وإتباع النور الذي أنزل معه، ولما قاتلوه قاتلهم وقد انهزم أصحابه عنه مرة فبقي ثابتا كالجبل لا يتزلزل، وقد علم مما تقدم أن الفاء في قوله: {فقاتل} للتفريع بترتيب ما بعدها على ما قبلها، وقيل إنها جواب لشرط مقدر وهو إن أردت الفوز فقاتل. وكان الأقرب أن يقال إن التقدير: وإذ كنت مبلغا عن الله عز وجل لا وكيلا ولا جبارا على الناس فقاتل أنت امتثالا لأمر الله لك، وحرض غيرك من المؤمنين على طاعة الله تعالى بذلك تحريضا، لا إلزام سلطة ولا إجبار قوة، والتحريض الحث على الشيء بتزيينه وتسهيل الخطب فيه كما قال الراغب.
ومعنى لا تكلف إلا نفسك لا تكلف أنت إلا أفعال نفسك دون أفعال الناس فلا يضرك إعراض الذين قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال والذين يقولون لك طاعة ويبيتون غير ذلك، فإن طاعتهم لك إنما تجب لأنك مبلغ عن الله فهي طاعة الله ومن أطاع الله لا يضره عصيان من عصاه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحين يصل السياق إلى هذا الحد من تقويم عيوب الصف؛ التي تؤثر في موقفه في الجهاد وفي الحياة -ومنذ أول الدرس وهذا التقويم مطرد لهذه العيوب- عندئذ ينتهي إلى قمة التحضيض على القتال الذي جاء ذكره في ثنايا الدرس. قمة التكليف الشخصي، الذي لا يقعد الفرد عنه تبطئة ولا تخذيل، ولا خلل في الصف، ولا وعورة في الطريق. حيث يوجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقاتل -ولو كان وحيدا- فإنه لا يحمل في الجهاد إلا تبعة شخصه صلى الله عليه وسلم وفي الوقت ذاته يحرض المؤمنين على القتال.. وكذلك يوحي إلى النفوس بالطمأنينة ورجاء النصر: فالله هو الذي يتولى المعركة. والله أشد بأسا وأشد تنكيلا:
(فقاتل في سبيل الله -لا تكلف إلا نفسك- وحرض المؤمنين. عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا. والله أشد بأسا وأشد تنكيلا)..
ومن خلال هذه الآية -بالإضافة إلى ما قبلها- تبرز لنا ملامح كثيرة في الجماعة المسلمة يومذاك. كما تبرز لنا ملامح كثيرة في النفس البشرية في كل حين:
" أ "يبرز لنا مدى الخلخلة في الصف المسلم؛ وعمق آثار التبطئة والتعويق والتثبيط فيه؛ حتى لتكون وسيلة الاستنهاض والاستجاشة، هي تكليف النبي صلى الله عليه وسلم أن يقاتل في سبيل الله -ولو كان وحده- ليس عليه إلا نفسه؛ مع تحريض المؤمنين. غير متوقف مضيه في الجهاد على استجابتهم أو عدم استجابتهم! ولو أن عدم استجابتهم -جملة- أمر لا يكون. ولكن وضع المسألة هذا الوضع يدل على ضرورة إبراز هذا التكليف على هذا النحو؛ واستجاشة النفوس له هذه الاستجاشة. فوق ما يحمله النص -طبعا- من حقيقة أساسية ثابتة في التصور الإسلامي. وهي أن كل فرد لا يكلف إلا نفسه..
"ب" كما يبرز لنا مدى المخاوف والمتاعب في التعرض لقتال المشركين يومذاك.. حتى ليكون أقصى ما يعلق الله به رجاء المؤمنين: أن يتولى هو سبحانه كف بأس الذين كفروا؛ فيكون المسلمون ستارا لقدرته في كف بأسهم عن المسلمين.. مع إبراز قوة الله -سبحانه- وأنه أشد بأسا وأشد تنكيلا.. وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوة بأس الذين كفروا يومذاك؛ والمخاوف المبثوثة في الصف المسلم.. وربما كان هذا بين أحد والخندق. فهذه أحرج الأوقات التي مرت بها الجماعة المسلمة في المدينة؛ بين المنافقين، وكيد اليهود، وتحفز المشركين! وعدم اكتمال التصور الإسلامي ووضوحه وتناسقه بين المسلمين!
" ج "كذلك تبرز لنا حاجة النفس البشرية؛ وهي تدفع إلى التكاليف التي تشق عليها، إلى شدة الارتباط بالله؛ وشدة الطمأنينة إليه؛ وشدة الاستعانة به؛ وشدة الثقة بقدرته وقوته.. فكل وسائل التقوية غير هذه لا تجدي حين يبلغ الخطر قمته. وهذه كلها حقائق يستخدمها المنهج الرباني؛ والله هو الذي خلق هذه النفوس. وهو الذي يعلم كيف تربى وكيف تقوى وكيف تستجاش وكيف تستجيب..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفريع على ما تقدّم من الأمر بالقتال، ومن وصف المثبطين عنه، والمتذمّرين منه، والذين يفتنون المؤمنين في شأنه، لأنّ جميع ذلك قد أفاد الاهتمام بأمر القتال، والتحريضَ عليه، فتهيّأ الكلام لتفريع الأمر به. ولك أن تجعل الفاء فصيحة بعد تلك الجمل الكثيرة، أي: إذا كان كما علمت فقاتل في سبيل الله، وهذا عود إلى ما مضى من التحريض على الجهاد، وما بينهما اعتراض. فالآية أوجبت على الرسول صلى الله عليه وسلم القتال، وأوجبت عليه تبليغ المؤمنين الأمرَ بالقتال وتحريضهم عليه، فعبّر عنه بقوله: {لا تكلَّفُ إلاّ نفسَك وحرِّض المؤمنين} [النساء: 84] وهذا الأسلوب طريق من طرق الحثّ والتحريض لِغير المخاطب، لأنّه إيجاب القتال على الرسول، وقد علم إيجابه على جميع المؤمنين بقوله: {فليقاتل في سبيل الله الذين يَشرون الحياة الدنيا بالآخرة} [النساء: 74] فهو أمر للقدوة بما يجب اقتداء الناس به فيه. وبيّن لهم علّة الأمر وهي رجاء كفّ بأس المشركين، ف (عسى) هنا مستعارة للوعد. والمراد بهم هنا كفّار مكة، فالآيات تهيئة لِفتح مكة.
وجملة {والله أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً} تذييل لتحقيق الرجاء أو الوعد، والمعنى أنه أشدّ بأساً إذا شاء إظهار ذلك، ومن دلائل المشيئة امتثال أوامره التي منها الاستعداد وترقّب المسببات من أسبابها.
والتنكيل عقاب يرتدع به رَائيهِ فضلاً عن الذي عوقب به.
وقول الحق: {لا تكلف إلا نفسك} هو تكليف بالفعل لا بالبلاغ فقط، فالرسول يبلغ، لكن أن يفعل المؤمنون ما بلغهم به عن الله أو لا يفعلوا فهذا ليس من شأنه ولا هو مكلف به. ولكن على الرسول ان يلزم ويكلف نفسه ليقاتل في سبيل الله. {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك}...
أمعنى ذلك أن يترك الرسول الذين آمنوا به لنفوسهم؟. لا. فالحق قد أوضح: عليك أيضا أن تحرضهم على القتال فلا تتركهم لنفوسهم: {وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا} ومعنى "حرض "مأخوذ من "الحرض" وهو ما به إزالة العوائق وما ينظف الأيدي والملابس مما يرين عليها ويعلوها من الوسخ والدنس، فعليك يا رسول الله أن تنظر في أمر صحابتك وإتباعك وتعرف لماذا لا يريدون أن يقاتلوا، وعليك أن تنفض عنهم الموانع وتزيل العوائق التي تمنعهم أن يقاتلوا...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنها دعوة من الله إلى الرسولصلى الله عليه وسلم أن يتحمل مسؤولية القتال في سبيل الله، لأن دوره ليس دور الرسول الذي يبلّغ رسالات الله، ثم يصبر على الأذى، ثم يتراجع عن الساحة ويستسلم لمخططات الأعداء، ويضعف أمام تعاظم قوتهم، ويستكين أمام شدّة بأسهم، بل إن دوره العظيم أن يغير الحياة على أساس رسالة الله، فينسف كل قواعد الواقع الفاسد، ويحطم قوة الذين كفروا، ويضعف من بأسهم، بكل الوسائل التي يملكها ليحركها في خط المواجهة... ولا بد له في هذا المجال أن يتقدم الصفوف ليقاتل في سبيل الله، ليكون النبي المقاتل كما كان الرسول الداعية المبلّغ، لأن شخصية الرسول هي النموذج الذي ينبغي للمؤمنين أن يصوغوا شخصيتهم على صورته، فتتكامل لهم الشخصية المتوازنة التي تجمع في داخلها كل ما تحتاجه الحياة من عناصر الشخصية الفاعلة المؤثرة، التي تقود الحياة من موقع المعاناة إلى أهدافها الكبيرة التي يريدها الله لها في مسيرتها إليه. وإذا كان الله قد كلف الرسول بالقتال في سبيله، فإنه لم يحمّله في هذا الجانب إلا مسؤولية نفسه، تماماً كأيِّ مسلم يتحمل مسؤولية عمله، دون أن يحمل مسؤولية غيره في ما يقوم به، إلا بالمقدار الذي يتصل بمسؤوليته في إعداد المقدمات وتهيئة الأجواء؛ ولكن الله أراد للرسول في مسؤوليته القيادية أن يحرض المؤمنين على القتال، بكل الأساليب التي تدفعهم إلى الإقبال عليه، ليقفوا في مواجهة العدو صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، لأن قوة الكافرين لا تضعف ولا تتحطم إلا إذا وقف المؤمنون كقوة مسلّحة في مواجهتهم، فذلك هو الذي يحقق للساحة توازنها وقوتها، تبعاً لما أراده الله من جريان الأمور بأسبابها الطبيعية، لأنه لم يشأ أن تتحرك قضايا النصر والهزيمة بطريقة المعجزة، ليتحول الناس إلى عناصر تجلس في الظل في استرخاء، وتتطلع إلى العدو وهو يتقدم ببلاهة، لتنتظر المعجزة من السماء أن ترسل على العدو ناراً تحرق كل أفراده وأسلحته... إن وجود القوة المستعدة للمجابهة بكفاءة، هي التي يمكن أن يرد الله من خلالها بأس الكافرين، ومهما بلغ بأسهم، فإن الله أشد بأساً وأشد تنكيلاً، فلا ينبغي للمؤمنين أن يأخذهم الرعب والخوف والهلع ما دامت قوتهم مستندة إلى قوة الله سبحانه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد ما تقدم من الآيات الكريمة حول الجهاد، تأتي هذه الآية لتعطي أمراً جديداً وخطيراً إِلى الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّه مكلّف بمواجهة الأعداء وجهادهم حتى لو بقي وحيداً ولم يرافقه أحد من المسلمين إِلى ميدان القتال. لأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مسؤول عن أداء واجبه هو، وليس عليه مسؤولية بالنسبة للآخرين سوى التشويق والتحريض والدعوة الى الجهاد: (فقاتل في سبيل الله لا تكلّف إلا نفسك وحرض المؤمنين). الآية تشتمل على حكم اجتماعي مهم يخصّ القادة، ويدعوهم إِلى التزام الرأي الحازم والعمل الجاد في طريقهم ومسيرتهم نحو الهدف المقدس الذي يعملون ويدعون من أجله، حتى لو لم يجدوا من يستجيب لدعوتهم، لأنّ استمرار الدعوة غير مشروط باستجابة الآخرين لها، وأي قائد لا يتوفر فيه هذا الحزم فهو بلا ريب عاجز عن النهوض بمهام القيادة، فلا يستطيع أن يواصل الطريق نحو تحقيق الأهداف المرجوة خاصّة القادة الإِلهيون الذين يعتمدون على الله... مصدر كل قدرة وقوّة في عالم الوجود، وهو سبحانه أقوى من كل ما يدبّره الأعداء من دسائس ومكائد بوجه الدّعوة، لذلك تقول الآية: (عسى الله أن يكفّ بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشدّ تنكيلا)...