التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأۡسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسٗا وَأَشَدُّ تَنكِيلٗا} (84)

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا ( 84 ) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ( 85 ) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ( 86 ) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ( 87 )

والفاء فى قوله { فَقَاتِلْ } للإِفصاح عن جواب شرط مقدر . أى : إذا كان الأمر كما حكى - سبحانه - عن المنافقين وكيدهم . . . فقاتل أنت يا محمد من أجل إعلاء كلمة الله ولا تلتفت إلى أفعالهم وأقوالهم .

وقوله { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } أى : قاتل - يا محمد - فى سبيل إعلاء كلمة الله ، والله - تعالى - لا يكلفك إلا فعل نفسك ، فتقدم للجهاد ولا تلتفت إلى تباطؤ المتباطئين ، أو تخذيل المخذلين ، فإن الله هو ناصرك لا الجنود ، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف .

وجملة { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } فى محل نصب على الحال من فاعل فقاتل : أى : فقاتل حال كونك غير مكلف إلا نفسك وحدها .

قال صاحب الكشاف : قيل : دعا النبى صلى الله عليه وسلم الناس فى بدر الصغرى إلى الخروج ، وكان أبو سفيان قد واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها . فكره بعضهم أن يخرجوا فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا سبعون لم يعولوا على أحد . ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده ، وقرئ { لاَ تُكَلَّفُ } بالجزم على النهى . ولا نكلف : بالنون وكسر اللام .

أى : لا نكلف نحن نفسك وحدها .

وقوله { وَحَرِّضِ المؤمنين } أى : حثهم على القتال ورغبهم فيه ، حتى ينفروا معك خفافا وثقالا من أجل نصرة الحق والدفاع عن المظلومين .

ولقد استجاب النبى صلى الله عليه وسلم لهذه الأوامر ، وأعد نفسه لقتال أعدائه ، ورغب أتباعه فى ذلك ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم عندما أذن الله له فى القتال " والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتى " أى : حتى أموت .

ولقد اقتدى به أبو بكر الصديق فى حروب الردة فقال : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله علي وسلم لقاتلتهم على منعها . ولو خالفتنى يمينى لجاهدتهم بشمالى .

ولقد استفاضت أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم فى ترغيب أمته فى الجهاد ، ومن ذلك قوله لأصحابه يوم بدر وهو يسوى الصفوف : قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض .

قال الفخر الرازى : دلت الآية الكريمة على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال ، لأنه - تعالى - ما كان يأمره إلا وهو صلى الله عليه وسلم موصوف بهذه الصفات . ولقد اقتدى به أبو بكر - رضى الله عنه - حيث حاول الخروج وحده لقتال ما نعى الزكاة ، ومن علم أن الأمر كله بيد الله ، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل عليه ذلك . ودلت الآية على أنه صلى الله عليه وسلم لو لم يساعده على القتال لم يجز له التخلف عن الجهاد .

وقوله : { عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } بشارة للمؤمنين ، ووعد منه - سبحانه - بحسن عاقبتهم وسوء عاقبة الكافرين . و { عَسَى } حرف ترج . وهو هنا يفيد التحقق واليقين ، لأنه صادر عن الله - تعالى - ، الذى لا يخلف وعده . وفى التعبير بها تعليم للمؤمنين الأدب فى القول حتى لا يجزمون بأم يتعلق بالمستقبل ، بل يسددون ويقاربون ويباشرون الأسباب ثم بعد ذلك يتركون النتائج لله - تعالى - والمعنى : قاتل يا محمد فى سبيل الله وحرض المؤمنين على ذك ، عسى الله - تعالى - { أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ } أى يمنع قتالهم وصولتهم وطغيانهم { والله أَشَدُّ بَأْساً } أى أشد صولة وأعظم سلطانا ، وأقدر بأسا على ما يريده { وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } أى أشد عقوبة وتعذيبا .

والتنكيل : مصدر من قول القائل نكلت بفلان فأنا أنك به تنكيلا إذا أوجعته عقوبة ، وجعلته عبرة لغيره . وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد ، ثم استعمل فى كل تعذيب بلغ الغاية فى الشدة والألم .

وأفعل التفضيل { وَأَشَدُّ } ليس على بابه ، لأن بأس المشركين لا قيمة له بجانب بأس الله - تعالى - وقوته ونفاذ أمره . وعذابهم لغيرهم من الضعفاء لا وزن له بجانب عذابه - سبحانه - للظالمين ، لأن عذابهم لغيرهم سينتهى مهما طال ، أما عذابه - سبحانه - فلا يمكن التخلص منه ولأن عذابهم لغيرهم سينتهى مهما طال ، أما عذابه - سبحانه - للكافرين الظالمين فهو باق دائم لا ينتهى ولا يزول .

والمقصود من هذا التذييل تهديد الكافرين بسوء المصير وتشجيع المؤمنين على قتالهم ، وبشارتهم النصر عليهم .

قال القرطبى : قوله - تعالى - { عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ } إطماع ، والإِطماع من الله - تعالى - واجب لأن إطماع الكريم إيجاب . .

فإن قال قائل : نحن نرى الكفار فى بأس وشدة ، وقلتم : إن عسى بمعنى اليقين فأين ذلك الوعد ؟ قيل له : قد وجد على الاستمرار والدوام . فمتى وجد ولو لحظة مثلا فقد صدق الوعد ؛ فقد كف الله بأس المشركين فى بدر الصغرى . وفى الحديبية وفى غزوة الأحزاب حيث ألقى الله - تعالى - فى قلوب الأحزاب الرعب فانصرفوا دون أن ينالوا خيرا { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } فهذا كله بأس قد كفه الله عن المؤمنين .