محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأۡسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسٗا وَأَشَدُّ تَنكِيلٗا} (84)

وقوله تعالى :

( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا84 ) .

( فقاتل في سبيل الله ) تلوين للخطاب ، وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الالتفات . وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم . أي : إذا كان الأمر ، كما حكي من عدم طاعة المنافقين وكيدهم ، فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا . قاله أبو السعود . ( لا تكلف إلا نفسك ) أي : إلا فعل نفسك . بالتقدم إلى الجهاد . فإن الله هو ناصرك ، لا الجنود . فإن شاء نصرك وحدك ، كما ينصرك وحولك الألوف . أي : ومن نكل ، فلا عليك منه ولا تؤاخذ به .

قال الرازي : دلت الآية على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال . لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك الا وهو صلى الله عليه وسلم موصوف بهذه الصفات . ولقد اقتدى به أبو بكر{[2012]}رضي الله عنه حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة . ومن علم أن الأمر كله بيد الله ، وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله ، سهل ذلك عليه . وروى ابن أبي حاتم عن أبي اسحاق قال : " سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل ، فيكون ممن قال الله فيه : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ؟ ) قال : قد قال الله تعالى لنبيه : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ) " .

ورواه الإمام أحمد{[2013]} أيضا عنه قال : " قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين ، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال : لا . ان الله بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ) . إنما ذلك في النفقة " . ( وحرض المؤمنين ) أي على الخروج معك وعلى القتال . ورغبهم فيه وشجعهم عليه . كما قال لهم{[2014]} صلى الله عليه ، يوم بدر ، وهو يسوي الصفوف : " قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض " . وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك . منها : ما رواه البخاري{[2015]} عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله . بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " . ( عسى الله أن يكف ) أي : يمنع ( بأس ) أي : قتال : ( الذين كفروا ) وهم كفار مكة . أي : بتحريضك إياهم على القتال ، تبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله ، ومقاومتهم ومصابرتهم .

قال أبو السعود : وقوله تعالى : ( عسى . . . الخ ) عدة منه سبحانه وتعالى محققة الانجاز بكف شدة الكفرة ومكروههم . فإن مصدر ب ( لعل وعسى ) مقرر الوقوع من جهته عز وجل . وقد كان كذلك . حيث روي في ( السيرة ) {[2016]} " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيان ، بعد حرب أحد ، موسم بدر الصغرى في ذي القعدة . فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج . وخرج في شعبان سنة أربع في سبعين راكبا . ووافوا الموعد وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب . فرجعوا من مر الظهران " . انتهى ، بزيادة .

وقال في ذلك عبد الله بن رواحة ( وقيل كعب بن مالك ) :

وعدنا أبا سفيان بدرا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا

فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا لأبت ذميما ، وافتقدت المواليا

تركنا به أوصال عتبة وابنه وعمرا ، أبا جهل ، تركناه ثاويا

عصيتم رسول الله ، أف لدينكم وأمركم السيء ، الذي كان غاويا

فاني ، وان عنفتموني ، لقائل فدى لرسول الله أهلي وماليا

أطعناه ، لم نعدله فينا بغيره شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا

( والله أشد بأسا ) أي : شدة وقوة من قريش ( وأشد تنكيلا ) أي تعذيبا وعقوبة .

قال ابن كثير : أي : هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة . كما قال تعالى : ( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) {[2017]} . انتهى .

قال الخفاجي : والقصد التهديد أو التشجيع .


[2012]:جاء في صحيح البخاري في: 24 –كتاب الزكاة، 1 –باب وجوب الزكاة، حديث 743 و744 ما نصه: عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر رضي الله عنه. وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله. فمن قالها، فقد عصم ماله ونفسه، الا بحقه. وحسابه على الله"؟ فقال: والله، لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. فان الزكاة حق المال: والله، لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها الى رسول الله صلى الله عليه وسام، لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فوالله، ما هو الا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه، فعرفت أنه الحق.
[2013]:أخرجه في المسند بالصفحة 281 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي).
[2014]:أخرجه مسلم في: 33 –كتاب الامارة، حديث 145 (طبعتنا) ما نصه: عن أنس بن مالك قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان. فجاء وما في البيت أحد غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فحدثه الحديث. قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فقال: ان لنا طلبة. فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا: فجعل رجال يستأذنونه في ظهرانهم في علو المدينة. فقال: "لا. الا من كان ظهره حاضرا". فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى سبقوا المشركين الى بدر. وجاء المشركون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقدمن أحد منكم الى شيء حتى أكون أنا دونه" فدنا المشركون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا الى جنة عرضها السماوات والأرض" قال يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: "نعم" قال: بخ بخ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يحملك على قولك بخ بخ"؟ قال: لا. والله. يا رسول الله. الا رجاءة أن أكون من أهلها. قال: "فانك من أهلها". فأخرج تمرات من قرنه (جعبة النشاب) فجعل يأكل منهن. ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، انها لحياة طويلة. قال فرمى بما كان معه من التمر. ثم قاتلهم حتى قتل.
[2015]:أخرجه البخاري في: 56 –كتاب الجهاد، 4 –باب درجات المجاهدين في سبيل الله حديث 1335 ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله وبرسوله، وأقام الصلاة وصام رمضان، كان حقا على الله ان يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس أرضه التي ولد فيها". فقالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناس؟ قال: "ان في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله. ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض. فاذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فانه أوسط الجنة وأعلى الجنة. أراه فوقه عرش الرحمان. ومنه تفجر أنهار الجنة".
[2016]:سيرة ابن هشام بالصفحة 220 من الجزء الثالث (طبعة الحلبي) وبالصفحة 666 (طبعة جوتنجن).
[2017]:|47/ محمد صلى الله عليه وسلم/ 4| ونصها: (فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى اذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فاما منا بعد واما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم4).