البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأۡسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسٗا وَأَشَدُّ تَنكِيلٗا} (84)

التحريض : الحث .

التنكيل : الأخذ بأنواع العذاب وترديده على المعذب ، وكأنه مأخوذ من النكل وهو : القيد .

{ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين } قيل : نزلت في بدر الصغرى .

دعا الناس إلى الخروج ، وكان أبو سفيان وعادَ رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها ، فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت .

فخرج وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد ، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده .

ومناسبة هذه الآية هي : أنه لما ذكر في الآيات قبلها تثبيطهم عن القتال ، واستطرد من ذلك إلى أنَّ الموت يدرك كل أحد ولو اعتصم بأعظم معتصم ، فلا فائدة في الهرب من القتال ، وأتبع ذلك بما أتبع من سوء خطاب المنافقين للرسول عليه السلام ، وفعلهم معه من إظهار الطاعة بالقول وخلافها بالفعل ، وبكتهم في عدم تأملهم ما جاء به الرسول من القرآن الذي فيه كتب عليهم القتال ، عاد إلى أمر القتال .

وهكذا عادة كلام العرب تكون في شيء ثم تستطرد من ذلك إلى شيء آخر له به مناسبة وتعلق ، ثم تعود إلى ذلك الأول .

والفاء هنا عاطفة جملة كلام على جملة كلام يليه ، ومن زعم أنّ وجه العطف بالفاء هو أن يكون متصلاً بقوله : { وما لكم لا تقاتلون } أو بقوله : { فسوف يؤتيه أجراً عظيماً } وهو محمول على المعنى على تقدير شرط أي : إن أردت الفوز فقاتل .

أو معطوفة على قوله : { فقاتلوا أولياء الشيطان } فقد أبعد .

وظاهر الأمر أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده ، ويؤكده : لا تكلف إلا نفسك .

وحمله الزمخشري على تقدير شرط ، قال : أي إن أفردوك وتركوك وحدك لا تكلف إلا نفسك وحدها أن تقدمها للجهاد ، فإنّ الله هو ناصرك لا الجنود ، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف انتهى .

وسبقه إليه الزجاج قال : أمره بالجهاد وإن قاتل وحده ، لأنه ضمن له النصرة .

وقال ابن عطية : لم نجد قط في خبر أنّ القتال فرض على النبي دون الأمة مرة ما ، فالمعنى والله أعلم أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه : أي : أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له فقاتل في سبيل الله ، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر ، أن يجاهد ولو وحده ، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : « لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي » وقول أبي بكر وقت الردة : ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي .

ومعنى لا تكلف إلا نفسك : أي : لا تكلف في القتال إلا نفسك ، فقاتل ولو وحدك .

وقيل : المعنى إلا طاقتك ووسعك .

والنفس يعبر بها عن القوّة يقال : سقطت نفسه أي قوته .

وقرأ الجمهور : لا تكلف خبراً مبنياً للمفعول ، قالوا : والجملة في موضع الحال ، ويجوز أن يكون إخباراً من الله لنبيه ، لا حالاً شرع له فيها أنه لا يكلف أمر غيره من المؤمنين ، إنما يكلف أمر نفسه فقط .

وقرئ : لا نكلف بالنون وكسر اللام ، ويحتمل وجهي الإعراب : الحال والاستئناف .

وقرأ عبد الله بن عمر : لا تكلف بالتاء وفتح اللام ، والجزم على جواب الأمر .

وأمره تعالى بحث المؤمنين على القتال ، وتحريك هممهم إلى الشهادة .

{ عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } قال عكرمة وغيره : عسى من الله واجبه ، ومن البشر متوقعة مرجوّة .

والذين كفروا : هم كفار قريش ، وقد كف الله تعالى بأسهم ، وبدا لأبي سفيان ترك القتال .

وقال : هذا عام مجدب ، وما كان معهم إلا السويق ، ولا يلقون إلا في عام مخصب فرجع بهم .

وقيل : كف البأس يكون عند نزول عيسى ابن مريم عليه السلام .

وقيل : ذلك يوم الحديبية .

وقيل : هي فيمن ضربت عليهم الجزية .

والجمهور على ما قدمناه من أنّ ذلك كان عند خروجهم إلى بدر الصغرى .

والظاهر في هذا أنه لا يتقيد كف بأس الذين كفروا بما ذكروا ، والتخصيص بشيء يحتاج إلى دليل .

{ والله أشدّ بأساً وأشدّ تنكيلاً } هذا تقوية لقلوب المؤمنين ، وأنّ بأس الله أشدّ من بأس الكفار .

وقد رجى كف بأسهم ، ثم ذكر ما أعد لهم من النكال ، وأن الله تعالى هو أشد عقوبة .

فذكر قوّته وقدرته عليهم ، وما يؤول إليه أمرهم من التعذيب .

قال الحسن وقتادة : وأشد تنكيلاً أي عقوبة فاصحة ، والأظهر أن أفعل التفضيل هنا على بابها .

وقيل : هو من باب العسل أحلى من الخل ، لأن بأسهم بالنسبة إلى بأسه تعالى ليس بشيء .

/خ86