اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأۡسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسٗا وَأَشَدُّ تَنكِيلٗا} (84)

قوله - تعالى - : " فقاتل " : في هذه الفَاءِ خَمْسَةُ أوجه :

أحدها : أنَّها عاطفةٌ هذه الجُمْلَة على جُمْلة قوله : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } [ النساء : 74 ] .

الثاني : أنها عاطفتها على جُمْلَةِ قوله : { فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ } [ النساء : 76 ] .

الثالث : أنَّها عاطِفتُها على جُمْلَة قوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ } [ النساء : 75 ] .

الرابع : أنها عاطفتها على جملة قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 74 ] .

الخامس : أنها جوابُ شرط مُقَدَّر ، أي : إنْ أرَدْت فقاتل ، وأولُ هذه الأقْوَال هو الأظْهَر .

فصل

لما أمر بالجِهَاد في الآيات المُتقدِّمة ورغب فيه ، وذكر قِلَّة رغبة المُنَافِقِين في الجِهَاد ، عاد [ إلى ]{[9018]} الأمْر بالجِهَاد في هَذِه الآية .

قوله : { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } في هذه الجُمْلَة قولان :

أحدهما : أنها في محلِّ نَصْب على الحَالِ من فاعل " فقاتِلْ " أي : فقاتِلْ غير مُكَلَّفٍ إلا نَفْسك وحدها .

والثاني : أنها مُسْتأنفة أخْبَرَه - تعالى - أنه لا يكلِّف غَيْرَ نَفْسِه .

والجمهور على " تُكَلَّفُ " بِتَاء الخِطَاب ورفْع الفعل مبنيّاً للمفعُول ، و " نفسك " هو المفعُول الثاني ، وقرأ عبد الله بن عُمَر{[9019]} : " لا تُكَلِّفْ " كالجَمَاعة إلا أنه جزمه ، فقيل : على جَواب الأمْرِ ، وفيه نظرٌ ، والذي يَنْبَغِي أن يكُون نَهْياً ، وهي جملة مُسْتأنفة ، ولا يجُوز أن تكون حَالاً في قراءة عبد الله ؛ لأنَّ الطَّلَب لا يكون حالاً ، وقرئ " لا نكلف " بنُون{[9020]} العَظَمَة ورفع الفِعْل ، وهو يَحْتَمِل الحال والاستئنَاف المُتقدِّمَيْن .

فصل في سبب نزول الآية

روي أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا{[9021]} سُفيان بعد حَرْب أحد موسم بدر الصُّغْرى في ذِي القَعْدَة ، فلما بلغ المِيعَادُ دعَا النَّاس إلى الخُرُوج فكرهه بَعْضُهُم ؛ فأنزل الله : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ }{[9022]} أي : لا تَدَع جِهَاد العَدُوِّ ولو وحدك ، فإن اللَّه قد وعدك بالنُّصْرة ، و{ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } أي : حثَّهُم{[9023]} ورغَّبْهم في الثَّواب ، فَخَرَج رسُول الله صلى الله عليه وسلم في سَبْعِين رَاكِباً فَكَفَاهُم اللَّه القِتَالَ .

والتَّحْرِيض : الحَثُّ على الشيءِ ، قال الرَّاغِب{[9024]} : كأنه في الأصْل إزالةُ الحَرَض ، نحو : " قَذَيْتُه " أي : أزَلْت قَذَاهُ وأحْرَضْتُه : أفسَدْتُه كأقذيته ، أي : جَعَلْتُ فيه القَذَى ، والحَرَضُ في الأصْل : ما لا يُعْتَدُّ به ولا خَيْر فيه ، ولذلك يقال للمُشْرِف على الهَلاكِ : " حَرَض " ؛ قال - تعالى - : { حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً } [ يوسف : 85 ] وأحرصه كذا ، قال : [ البسيط ]

إنِّي امْرؤٌ هَمٌّ فأحْرَضَنِي *** حَتَّى بلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ{[9025]}

فصل

دلَّت الآية على أنَّه لو لم يُساعده على القِتَالِ غيره ، لم يجز له التَّخَلُّفُ عن الجِهادِ ألْبَتَّة ، والمعنى : لا تؤاخذ [ إلا ]{[9026]} بفعلك دون فِعْل غَيْرِك ، فإذا أدَّيْت فرضك لا تُكَلِّف بِفَرْض غَيْرِك ، واعْلَم : أنَّ الجِهَاد في حَقِّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم واجِبٌ ، فإنه على ثِقَة من النَّصْر والظَّفْرِ ؛ لقوله - [ تعالى ]{[9027]} - : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }

[ المائدة : 67 ] ، وقوله هَهُنَا : { عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } وعسى من الله : جَزْمٌ وَاجِبٌ فلزمه الجِهَاد وإن كان وحده بِخِلاف أمَّته ، فإنه فَرْضُ كِفَايَة ، فما لَمْ يَغْلِب على الظَّنِّ أنه يُفيد ، لم يَجِبْ .

وقوله : { عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : قِتَال المُشْركين والبَأس أصله المكرُوه ، يقال : ما عَلَيْكَ من هذا الأمْر بَأسٌ ، أي : مَكْرُوه ، ويقال : بِئسَ الشَّيْء هذا إذا وُصِف بالرَّدَاءَة : قال - تعالى{[9028]} - : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف :165 ] والعَذَاب قد يُسَمَّى بأساً ؛ لكونه مَكْرُوهاً ؛ قال - تعالى - : { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا }

[ غافر : 29 ] ، { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } ، { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } .

قوله : { وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } " بأساً " و " تنكيلاً " : تمييز ، والتَّنْكِيل تفعيل من النَّكْل وهو القَيْد ، ثم اسْتُعْمِل في كُلِّ عذاب يقال : نَكَلْت فُلاناً ؛ إذا عَاقَبْتَه عقوبَةً تَنْكِلُ غَيْره عن ارتِكَابِ مِثْله ، من قَوْلِهِم : نَكَل الرَّجُل عن الشَّيءِ ، إذا جَبُن عَنْه وامْتَنَع منه ؛ يُقَال : نَكَلَ فلان عن اليَمين ؛ إذا خَافَه{[9029]} ولم يُقْدِم عَلَيْه ، قال - تعالى - : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } [ البقرة : 66 ] وقال في حَدِّ السَّرقَة{[9030]} : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ } [ المائدة : 38 ] ، فقوله : { وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً } أي : أشد صَوْلَةً وأعظم سُلْطَاناً ، { وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } أي : عُقُوبة ، وبيان هذا التَّفَاوُت أنَّ عذاب الله دَائِم ، وعذاب غَيْره لا يَدُوم ، وعذاب الله لا يَقْدِر أحدٌ على التَّخَلُّص مِنْهُ ، وعذاب غَيْره يتخلَّص مِنْه .


[9018]:سقط في أ.
[9019]:ينظر: البحر المحيط 3/321، والدر المصون 2/404.
[9020]:ينظر: السابق.
[9021]:في ب: بني.
[9022]:تقدم.
[9023]:في أ: بينهم.
[9024]:ينظر: المفردات ص 112.
[9025]:البيت للعرجي. ينظر القرطبي 9/250 وروح المعاني 5/19 ومجاز القرآن 1/317 والطبري 16/222 وأمالي ابن الشجري 1/369 والصحاح 3/1070 واللسان (حرض) والدر المصون 2/404.
[9026]:سقط في أ.
[9027]:سقط في أ.
[9028]:في أ: ثعلب.
[9029]:في ب: خاف.
[9030]:في ب: السارق.