مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأۡسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَٱللَّهُ أَشَدُّ بَأۡسٗا وَأَشَدُّ تَنكِيلٗا} (84)

قوله تعالى : { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا } .

علم أنه تعالى لما أمر بالجهاد ورغب فيه أشد الترغيب في الآيات المتقدمة ، وذكر في المنافقين قلة رغبتهم في الجهاد ، بل ذكر عنهم شدة سعيهم في تثبيط المسلمين عن الجهاد ، عاد في هذه الآية إلى الأمر بالجهاد فقال : { فقاتل فى سبيل الله } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : الفاء في قوله : { فقاتل } بماذا تتعلق ؟ فيه وجوه : الأول : أنها جواب لقوله : { ومن يقاتل فى سبيل الله فيقتل } من طريق المعنى لأنه يدل على معنى إن أردت الفوز فقاتل الثاني : أن يكون متصلا بقوله : { وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله } { فقاتل فى سبيل الله } والثالث : أن يكون متصلا بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين ، والمعنى أن من أخلاق هؤلاء المنافقين كذا وكذا ، فلا تعتد بهم ولا تلتفت إلى أفعالهم ، بل قاتل .

المسألة الثانية : دلت الآية على أن الله تعالى أمره بالجهاد ولو وحده قبل دعاء الناس في بدر الصغرى إلى الخروج ، وكان أبو سفيان واعد الرسول صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها ، فكره بعض الناس أن يخرجوا ، فنزلت هذه الآية ، فخرج وما معه إلا سبعون رجلا ولم يلتفت إلى أحد ، ولو لم يتبعوه لخرج وحده .

المسألة الثالثة : دلت الآية على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق وأعرفهم بكيفية القتال لأنه تعالى ما كان يأمره بذلك إلا وهو صلى الله عليه وسلم موصوف بهذه الصفات ، ولقد اقتدى به أبو بكر رضي الله عنه حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة ، ومن علم أن الأمر كله بيد الله وأنه لا يحصل أمر من الأمور إلا بقضاء الله سهل ذلك عليه .

ثم قال تعالى : { لا تكلف إلا نفسك } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف » : قرئ { لا تكلف } بالجزم على النهي . و{ لا نكلف } بالنون وكسر اللام ، أي لا نكلف نحن إلا نفسك وحدها .

المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله . انتصاب قوله : { نفسك } على مفعول ما لم يسم فاعله .

المسألة الثالثة : دلت الآية على أنه لو لم يساعده على القتال غيره لم يجز له التخلف عن الجهاد البتة ، والمعنى لا تؤاخذ إلا بفعلك دون فعل غيرك ، فإذا أديت فعلك لا تكلف بفرض غيرك .

واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول عليه السلام من فروض الكفايات ، فما لم يغلب على الظن أنه يفيد لم يجب ، بخلاف الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه على ثقة من النصر والظفر بدليل قوله تعالى : { والله يعصمك من الناس } وبدليل قوله ههنا : { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } و«عسى » من الله جزم ، فلزمه الجهاد وإن كان وحده .

ثم قال تعالى : { وحرض المؤمنين } والمعنى أن الواجب على الرسول عليه الصلاة والسلام إنما هو الجهاد وتحريض الناس في الجهاد ، فإن أتى بهذين الأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا للجهاد شيء .

ثم قال : { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : عسى : حرف من حروف المقاربة وفيه ترج وطمع ، وذلك على الله تعالى محال .

والجواب عنه أن «عسى » معناها الإطماع ، وليس في الأطماع أنه شك أو يقين ، وقال بعضهم : إطماع الكريم إيجاب .

المسألة الثانية : الكف المنع ، والبأس أصله المكروه ، يقال ما عليك من هذا الأمر بأس أي مكروه ، ويقال بئس الشيء هذا إذا وصف بالرداءة ، وقوله : { بعذاب بئيس } أي مكروه ، والعذاب قد يسمى بأسا لكونه مكروها ، قال تعالى : { فمن ينصرنا من بأس الله } { فلما أحسوا بأسنا } قال المفسرون : عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا ، وقد كف بأسهم ، فقد بدا لأبي سفيان وقال هذا عام مجدب وما كان معهم زاد إلا السويق ، فترك الذهاب إلى محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم قال تعالى : { والله أشد بأسا وأشد تنكيلا } يقال : نكلت فلانا إذا عاقبته عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله ، من قولهم : نكل الرجل عن الشيء إذا جبن عنه وامتنع منه ، قال تعالى : { فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها } وقال في السرقة : { بما كسبا نكالا من الله } ويقال : نكل فلان عن اليمين إذا خافه ولم يقدم عليه .

إذا عرفت هذا فنقول : الآية دالة على أن عذاب الله وتنكيله أشد من عذاب غيره ومن تنكيله ، وأقبل الوجوه في بيان هذا التفاوت أن عذاب غير الله لا يكون دائما ، وعذاب الله دائم في الآخرة ، وعذاب غير الله قد يخلص الله منه ، وعذاب الله لا يقدر أحد على التخلص منه ، وأيضا عذاب غير الله لا يكون إلا من وجه واحد ، وعذاب الله قد يصل إلى جميع الأجزاء والأبعاض والروح والبدن .