111- إن أولئك الذين أقسموا إذا جاءتهم آية ليؤمنن بها كاذبون ، والله أعلم بإيمانهم ، ولو أننا نزّلنا الملائكة يرونهم رأي العين ، وكلَّمهم الموتى بعد إحيائهم وإخراجهم من قبورهم ، وجمعنا لهم كل شيء مقابلا لهم مواجهاً يبين لهم الحق ، ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله تعالى أن يؤمنوا ، والأكثرون لا يدركون الحق ولا يذعنون له ، لما أصاب قلوبهم من عمياء الجاهلية .
قوله تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } ، فرأوهم عياناً .
قوله تعالى : { وكلمهم الموتى } ، بإحيائنا إياهم فشهدوا لك بالنبوة كما سألوا .
قوله تعالى : { وحشرنا } ، وجمعنا .
قوله تعالى : { عليهم كل شيء قبلاً } ، قرأ أهل المدينة وابن عامر { قبلاً } بكسر القاف أو فتح الباء ، أي معاينة ، وقرأ الآخرون بضم القاف والباء ، قيل : هو جمع قبيل ، وهو الكفيل ، مثل : رغيف ورغف ، وقضيب وقضب . أي : ضمناء وكفلاء ، وقيل : هو جمع قبيل وهو القبيلة ، أي : فوجاً فوجاً ، وقيل : هو بمعنى المقابلة والمواجهة من قولهم : أتيتك قبلاً لا دبراً إذا أتاه من قبل وجهه .
جملة { وَلَوْ أَنَّنَا } معطوفة على جملة { وما يُشعركم } [ الأنعام : 109 ] باعتبار كون جملة { وما يُشعركم } عطفاً على جملة { قل إنّما الآيات عند الله } [ الأنعام : 109 ] ، فتكون ثلاثتها ردّا على مضمون جملة { وأقسموا بالله جَهْد أيمانهم لئن جاءتهم آية } [ الأنعام : 109 ] إلخ ، وبيانا لجملة { وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } [ الأنعام : 109 ] .
روى عن ابن عبّاس : أنّ المستهزئين ، الوليدَ بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسودَ بن عَبْدِ يغوثَ ، والأسودَ بنَ المطّلب ، والحارثَ بن حنظلة ، من أهل مكّة . أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رَهْط من أهل مكّة فقالوا : " أرِنا الملائكةَ يشهدون لك أوْ ابعث لنا بعض موتانا فنسألهم : أحقّ ما تقول " وقيل : إن المشركين قالوا : « لا نؤمن لك حتَّى يُحشر قُصَيٌ فيُخبِرَنا بصِدْقك أو ائتِنا بالله والملائكة قبيلاً أي كفيلاً » فنزل قوله تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة } للردّ عليهم . وحكى الله عنهم { وقالوا لن نؤمن لك } إلى قوله { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } في سورة الإسراء : ( 90 92 ) . وذَكر ثلاثة أشياء من خوارق العادات مسايرة لمقترحاتهم ، لأنَّهم اقترحوا ذلك .
وقوله : { وحَشَرنا عليهم كلّ شيء } يشير إلى مجموع ما سألوه وغيرِه . والحَشر : الجمع ، ومنه : { وحُشر لسليمان جنوده } [ النمل : 17 ] . وضمّن معنى البعث والإرسَالِ فعُدّي بعلَى كما قال تعالى : { بعثنا عليكم عباداً لنا } [ الإسراء : 5 ] . و { كل شيء } يعمّ الموجودات كلّها . لكن المقام يخصّصه بكلّ شيء ممّا سألوه ، أو من جنس خوارق العادات والآيات ، فهذا من العام المراد به الخصوص مثل قوله تعالى ، في ريح عاد { تدمر كل شيء بأمر ربها } [ الأحقاف : 25 ] والقرينة هي ما ذكر قبله من قوله : { ولو أنَّنا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى } .
وقوله : { قِبَلاً } قرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر بكسر القاف وفتح الباء ، وهو بمعنى المقابلة والمواجهة ، أي حشرنا كلّ شيء من ذلك عياناً . وقرأه الباقون بضمّ القاف والباء وهو لغة في قِبَل بمعنى المواجهة والمعاينة ؛ وتأوّلها بعض المفسّرين بتأويلات أخرى بعيدة عن الاستعمال ، وغير مناسبة للمعنى .
و { ما كانوا ليؤمنوا } هو أشدّ من ( لا يؤمنون ) تقوية لنفي إيمانهم ، مع ذلك كلّه ، لأنَّهم معاندون مكابرون غير طالبين للحقّ ، لأنَّهم لو طَلَبوا الحقّ بإنصاف لكفتْهم معجزة القرآن ، إنْ لَمْ يكفهم وضوح الحقّ فيما يدْعُو إليه الرّسول عليه الصلاة والسلام . فالمعنى : الإخبار عن انتفاء إيمانهم في أجدر الأحوال بأن يؤمن لها من يؤمن ، فكيف إذا لم يكن ذلك . والمقصود انتفاء إيمانهم أبداً .
{ ولو } هذه هي المسماة { لَوْ } الصهيبية ، وسنشرح القول فيها عند قوله تعالى : { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون في سورة الأنفال ( 23 ) .
وقوله : { إلا أن يشاء الله } استثناء من عموم الأحوال التي تضمّنها عموم نفي إيمانهم ، فالتّقدير : إلاّ بمشيئة الله ، أي حال أن يشاء الله تغيير قلوبهم فيؤمنوا طوعاً ، أو أن يكرههم على الإيمان بأن يسلّط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم كما أراد الله ذلك بفتح مكّة وما بعده .
ففي قوله : { إلا أن يشاء الله } تعريض بوعد المسلمين بذلك ، وحذفت الباء مع « أنْ » .
ووقع إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار : لأنّ اسم الجلالة يوميء إلى مقام الإطلاق وهو مقامُ { لا يُسأل عمّا يفعل } [ الأنبياء : 23 ] ، ويومىء إلى أنّ ذلك جرى على حسب الحكمة لأنّ اسم الجلالة يتضمّن جميع صفات الكمال .
والاستدراك بقوله : { ولكن أكثرهم يجهلون } راجع إلى قوله : { إلا أن يشاء الله } المقتضي أنّهم يؤمنون إذا شاء الله إيمانهم : ذلك أنَّهم ما سألوا الآيات إلاّ لتوجيه بقائهم على دينهم ، فإنَّهم كانوا مصمّمين على نبذ دعوة الإيمان ، وإنَّما يتعلَّلون بالعلل بطلب الآيات استهزاء ، فكان إيمانهم في نظرهم من قبيل المحال ، فبيّن الله لهم أنَّه إذا شاء إيمانَهم آمنوا ، فالجهل على هذا المعنى : هو ضدّ العلم . وفي هذا زيادة تنبيه إلى ما أشار إليه قوله : { إلا أن يشاء الله } من أنّ ذلك سيكون ، وقد حصل إيمان كثير منهم بعد هذه الآية . وإسناد الجهل إلى أكثرهم يدلّ على أنّ منهم عقلاء يحسبون ذلك .
ويجوز أن يكون الاستدراك راجعاً إلى ما تضمّنه الشّرط وجوابُه : من انتفاء إيمانهم مع إظهار الآيات لهم ، أي لا يؤمنون ، ويزيدهم ذلك جهلاً على جهلهم ، فيكون المراد بالجهل ضدّ الحلم ، لأنَّهم مستهزئون ، وإسناد الجهل إلى أكثرهم لإخراج قليل منهم وهم أهل الرأي والحلم فإنَّهم يرجى إيمانهم ، لو ظهرت لهم الآيات ، وبهذا التّفسير يظهر موقع الاستدراك .
فضمير { يجهلون } عائد إلى المشركين لا محالة كبقية الضّمائر التي قبله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.