قوله تعالى : { قال رب } ، أي : يا رب ، { السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } ، قيل : كان الدعاء منها خاصة ، ولكنه أضاف إليهن خروجا من التصريح إلى التعريض . وقيل : إنهن جميعا دعونه إلى أنفسهن . وقرأ يعقوب وحده : السجن بفتح السين . وقرأ العامة بكسرها . وقيل : لو لم يقل : السجن أحب إلي لم يبتل بالسجن ، والأولى بالمرء أن يسأل الله العافية . قوله تعالى : { وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن } ، أمل إليهن وأتابعهن ، يقال : صبا فلان إلى كذا يصبو صبوا وصبوا وصبوة إذا مال واشتاق إليه . { وأكن من الجاهلين } ، فيه دليل على أن المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكبه عن جهالة .
وقوله تعالى : { قال ربي السجن أحب إليّ } ، وروي أنه لما توعدته امرأة العزيز قال له النسوة : أطع مولاتك ، وافعل ما أمرتك به ؛ فلذلك قال : { مما يدعونني إليه } قال نحوه الحسن ووزن «يدعون » في هذه الآية : يفعلن ، بخلاف قولك : الرجال يدعون .
وقرأ الجمهور «السِّجن » بكسر السين ، وهو الاسم ، وقرأ الزهري وابن هرمز ويعقوب وابن أبي إسحاق «السَّجن » بفتح السين وهي قراءة عثمان رضي الله عنه وطارق مولاه ، وهو المصدر ، وهو كقولك : الجزع والجزع .
وقوله : { وإلا تصرف } إلى آخر الآية ، استسلام لله تعالى ورغبة إليه وتوكل عليه ؛ المعنى : وإن لم تنجني أنت هلكت ، هذا مقتضى قرينة كلامه وحاله ، والضمير في { إليه } عائد على الفاحشة المعنية بما في قوله { مما } . و { أصب } مأخوذة من الصبوة ، وهي أفعال الصبا ، ومن ذلك قول الشاعر - أنشده الطبري - [ الهزج ]
إلى هند صبا قلبي*** وهند مثلها يصبي{[6676]}
ومن ذلك قول دريد بن الصمة : [ الطويل ]
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه*** فلما علاه قال للباطل ابعدِ{[6677]}
و { الجاهلين } هم الذين لا يراعون حدود الله تعالى ونواهيه{[6678]} .
استئناف بياني ، لأن ما حُكي قبله مقام شدة من شأنه أن يَسأل سامعه عن حال تلقي يوسف عليه السّلام فيه لكلام امرأة العزيز .
وهذا الكلام مناجاة لربه الذي هو شاهدهم ، فالظاهر أنه قال هذا القول في نفسه . ويحتمل أنّه جهر به في ملئهن تأييساً لهن من أن يفعل ما تأمره به .
وقرأ الجمهور « السّجن » بكسر السين . وقرأه يعقوب وحده بفتح السين على معنى المصدر ، أي أن السجن أحب إليّ . وفضّل السجن مع ما فيه من الألم والشدة وضيق النفس على ما يدعونه إليه من الاستمتاع بالمرأة الحسنة النفيسة على ما فيه منا للذة ولكن كرهه لفعل الحرام فضل عنده مقاساة السجن . فلما علم أنه لا مَحيص من أحد الأمرين صار السجن محبوباً إليه باعتبار أنّه يخلصه من الوقوع في الحرام فهي محبة ناشئة عن ملاءمة الفكر ، كمحبة الشجاع الحرب .
فالإخبار بأن السجن أحبُّ إليه مِن الاستمتاع بالمرأة مستعمل في إنشاء الرضى بالسجن في مرضاة الله تعالى والتباعد عن محارمه ، إذ لا فائدة في إخبار من يعلم ما في نفسه فاسم التفضيل على حقيقته ولا داعي إلى تأويله بمسلوب المفاضلة .
وعبّر عما عرضته المرأة بالموصولية لما في الصلة من الإيماء إلى كون المطلوب حالة هي مظنة الطواعية ، لأن تمالىء الناس على طلب الشيء من شأنه أن يوطن نفس المطلوب للفعل ، فأظهر أن تمالئهن على طلبهن منه امتثالَ أمْر المرأة لم يَفُلّ من صارم عزمه على الممانعة ، وجعل ذلك تمهيداً لسؤال العصمة من الوقوع في شَرك كيدهن ، فانتقل من ذكر الرضى بوعيدها إلى سؤال العصمة من كيدها .
وأسند فعل { يدعونني } إلى نون النسوة ، فالواو الذي فيه هو حرف أصلي وليست واو الجماعة ، والنون ليست نون رفع لأنه مبني لاتصاله بنون النسوة ، ووزنه يفعُلْنَ . وأسند الفعل إلى ضمير جمع النساء مع أنّ التي دعته امرأة واحدة ، إما لأن تلك الدعوة من رغبات صنف النساء فيكون على وزان جمع الضمير في { كيدهن } ، وإما لأنّ النسوة اللاّتي جمعتهن امرأة العزيز لما سمعن كلامها تمَالأن على لوم يوسف عليه السّلام وتحريضه على إجابة الداعية ، وتحذيره من وعيدها بالسجن . وعلى وزان هذا يكون القول في جمع الضمير في { كيدهن } [ سورة يوسف : 28 ] أي كيد صنف النساء ، مثل قول العزيز { إنّ كيدكنّ عظيم } ، أي كيد هؤلاء النسوة .
وجملة { وإلاّ تصرف عني كيدهن } خبر مستعمل في التخوّف والتوقع التجاء إلى الله وملازمة للأدب نحو ربه بالتبرؤ من الحَول والقوة والخشية من تقلب القلب ومن الفتنة بالميل إلى اللذة الحرام . فالخبر مستعمل في الدعاء ، ولذلك فرع عنه جملة { فاستجاب له ربّه } .
ومعنى { أصبُ } أمِلْ . والصبو : الميل إلى المحبوب .
والجاهلون : سفهاء الأحلام ، فالجهل هنا مقابِل الحلم . والقول في أن مبالغة { أكن من الجاهلين } أكثرُ من أكن جاهلاً كالقول في { وليكوناً من الصاغرين } [ سورة يوسف : 32 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.