70- واترك - أيها النبي - الذين اتخذوا شريعتهم اللهو واللعب ، وخدعتهم الحياة الدنيا عن الآخرة ، وذَكِّر دائماً بالقرآن ، وحذرهم هول يوم تحبس فيه كل نفس بعملها ، حيث لا ناصر ولا معين غير الله ، وإن كل فدية للنجاة من العذاب لا تقبل . أولئك الكافرون الذين حبسوا في العذاب بسبب ما عملوا من شر ، لهم في جهنم شراب من ماء شديد الحرارة ، وعذاب شديد الألم بسبب كفرهم .
قوله تعالى : { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } ، يعني : الكفار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزؤوا بها ، وتلاعبوا عند ذكرها ، وقيل : إن الله تعالى جعل لكل قوم عيداً ، فاتخذ كل قوم دينهم أي : عيدهم لعباً ولهواً ، وعيد المسلمين الصلاة وتكبيراتها ، وفعل الخير ، مثل الجمعة ، والفطر ، والنحر .
قوله تعالى : { وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به } . أي : وعظ بالقرآن .
قوله تعالى : { أن تبسل } ، أي : لأن لا تبسل ، أي : لا تسلم .
قوله تعالى : { نفس } ، للهلاك .
قوله تعالى : { بما كسبت } ، قاله مجاهد وعكرمة والسدي : وقال ابن عباس : تهلك ، وقال قتادة : أن تحبس ، وقال الضحاك : تحرق ، وقال ابن زيد : تؤخذ ، ومعناه : ذكرهم ليؤمنوا ، كيلا تهلك نفس بما كسبت ، وقال الأخفش : تبسل ، تجازى ، وقيل : تفضح ، وقال الفراء : ترتهن ، وأصل الإبسال التحريم ، والبسل الحرام ، ثم جعل نعتاً لكل شدة تتقى وتترك .
قوله تعالى : { ليس لها } ، أي لتلك النفس .
قوله تعالى : { من دون الله ولي } ، قريب .
قوله تعالى : { ولا شفيع } ، يشفع لها في الآخرة .
قوله تعالى : { وإن تعدل كل عدل } ، أي : تفد كل فداء .
قوله تعالى : { لا يؤخذ منها } ، هنا .
قوله تعالى : { أولئك الذين أبسلوا } ، أسلموا للهلاك .
قوله تعالى : { بما كسبوا ، لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } .
{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا } أي بنوا أمر دينهم على التشهي وتدينوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلا وآجلا ، كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب ، أو اتخذوا دينهم الذي كلفوهم لعبا ولهوا حيث سخروا به ، أو جعلوا عيدهم الذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو ولعب . والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم ، ويجوز أن يكون تهديدا لهم كقوله تعالى : { وغرتهم الحياة الدنيا } حتى أنكروا البعث . { وذكر به } أي بالقرآن . { أن تبسل نفس بما كسبت } مخافة أن تسلم إلى الهلاك وترهن بسوء عملها . وأصل الأبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه ، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أي حرام . { ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع } يدفع عنها العذاب . { وإن تعدل كل عدل } وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأنها تعادل المفدي وها هنا الفداء وكل نصب على المصدرية . { لا يؤخذ منها } الفعل مسند إلى منها لا إلى ضميره بخلاف قوله : { ولا يؤخذ منها عدل } فإنه المفدى به . { أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } أي سلموا إلى العذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة . { لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } تأكيد وتفصيل لذلك ، والمعنى هم بين ماء مغلي يتجرجر في بطونهم ونار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم .
هذا أمر بالمتاركة{[4958]} وكان ذلك بحسب قلة أتباع الإسلام حينئذ ، قال قتادة : ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال ، وقال مجاهد : الآية إنما هي للتهديد والوعيد فهي كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيد }{[4959]} وليس فيها نسخ لأنها متضمنة خبراً وهو التهديد ، وقوله { لعباً ولهواً } يريد إذ يعتقدون أن لا بعث فهم يتصرفون بشهواتهم تصرف اللاعب اللاهي ، { وغرتهم الحياة الدنيا } أي خدعتهم من الغرور وهو الإطماع بما لا يتحصل ، فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله وطمعهم ذلك فيما لا يتحصل من رحمته .
قال القاضي أبو محمد : ويتخرج في { غرتهم } هنا وجه آخر من الغَرور بفتح الغين{[4960]} أي ملأت أفواههم وأشبعتهم ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
ولما التَقَيْنَا بالحَنِيَّةِ غَرَّنِي . . . بِمَعْروفِهِ حتّى خَرَْجتُ أُفَوِّقُ{[4961]}
ومنه غر الطائر فرخه ، ولا يتجه هذا المعنى في تفسير «غر » وفي كل موضع وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللعب واللهو ديناً ، ويحتمل أن يكون المعنى اتخذوا دينهم الذي كان ينبغي لهم لعباً ولهواً ، والضمير في { به } عائد على الدين ، وقيل : على القرآن ، و { أن تبسل } في موضع المفعول أي لئلا تبسل أو كراهية أن تبسل ، ومعناه تسلم ، قال الحسن وعكرمة ، وقال قتادة : تحبس وترتهن ، وقال ابن عباس : تفضي ، وقال الكلبي وابن زيد : تجزى ، وهذه كلها متقاربة بالمعنى{[4962]} ، ومنه قول الشنفرة : [ الطويل ]
هنالك لا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي . . . سَمِيرَ اللَّيالي مُبْسَلاً بالجَرَائِرِ{[4963]}
وقال بعض الناس هو مأخوذ من البَسَل أي من الحرام كما قال الشاعر [ ضمرة النهشاني ] : [ الكامل ]
بَكَرَتْ تَلُومُكَ بِعْدَ وَهْنٍ في النَّدَى . . . بَسل عَلَيْك مَلامَتِي وعِتابي{[4964]}
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد ، و { نفس } تدل على الجنس ، ومعنى الآية : وذكر بالقرآن والدين وادع إليه لئلا تبسل نفس التارك للإيمان بما كسبت من الكفر وآثرته من رفض الإسلام ، وقوله تعالى : { ليس لها من دون الله } في موضع الحال ، و { من } لابتداء الغاية ويجوز أن تكون زائدة و { دون } ظرف مكان وهي لفظة تقال باشتراك ، وهي في هذه الآية الدالة على زوال من أضيفت إليه من نازلة القول كما في المثل :
وأمر دون عبيدة الودم{[4965]} . .
والولي والشفيع هما طريقا الحماية والغوث في جميع الأمور { وإن تعدل كل عدل } أي وإن تعط كل فدية ، وإن عظمت فتجعلها عدلاً لها لا يقبل منها ، وحكى الطبري عن قائل : ان المعنى : وإن تعدل من العدل المضاد للجور ، ورد عليه وضعّفه بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة .
قال القاضي أبو محمد : ولا يلزم هذا الرد لأن الأمر إنما هو يوم القيامة ولا تقبل فيه توبة ولا عمل ، والقول نص لأبي عبيدة ، و «العدل » في اللغة مماثل الشيء من غير جنسه ، وقبل : العِدل بالكسر المثل والعَدل بالفتح القيمة ، و { أولئك } إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله { تبسل نفس } ، و { ابسلوا } معناه أسلموا بما اجترحوه من الكفر ، و «الحميم » الماء الحار ، ومنه الحمام والحمة{[4966]} ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إلا الحَميمَ فإنَّه يَتَبَصَّعُ{[4967]}