البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَذَرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَعِبٗا وَلَهۡوٗا وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ وَذَكِّرۡ بِهِۦٓ أَن تُبۡسَلَ نَفۡسُۢ بِمَا كَسَبَتۡ لَيۡسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ وَإِن تَعۡدِلۡ كُلَّ عَدۡلٖ لَّا يُؤۡخَذۡ مِنۡهَآۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أُبۡسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْۖ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ} (70)

الإبسال : تسليم المرء نفسه للهلاك ويقال أبسلت ولدي أرهنته ، قال الشاعر :

وابسالي بني بغير جرم *** بعوناه ولا بدم مراق

بعوناه جنيناه والبعو الجناية .

الحميم : الماء الحار .

{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } هذا أمر بتركهم وكان ذلك لقلة أتباع الإسلام حينئذ .

قال قتادة : ثم نسخ ذلك وما جرى مجراه بالقتال .

وقال مجاهد : إنما هو أمر تهديد ووعيد كقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيداً } ولا نسخ فيها لأنها متضمنة خبراً وهو التهديد ودينهم ما كانوا عليه من البحائر والسوائب والجوامي والوصائل وعبادة الأصنام والطواف حول البيت عراة يصفرون ويصفقون أو الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام { لعباً ولهواً } حيث سخروا به واستهزؤوا ، أو عبادتهم لأنهم كانوا مستغرقين في اللهو واللعب وشرب الخمر والعزف والرقص لم تكن لهم عبادة إلا ذلك أقوال ثلاثة وانتصب { لعباً ولهواً } على المفعول الثاني لاتخذوا .

وقال أبو عبد الله الرازي : الأقرب أن المحقق في { الدّين } هو الذي ينصر الدّين لأجل أنه قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب ، وأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرئاسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدّين للدنيا وقد حكم الله على الدّنيا في سائر الآيات بأنها لعب ولهو ، فالآية إشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه وأكثر الخلق موصوفون بهذه الصفة ؛ انتهى ، وفيه بعض تلخيص وظاهر تفسيره يقتضي أن { اتخذوا } هنا متعدّية إلى واحد وأن انتصاب { لعباً ولهواً } على المفعول من أجله فيصير المعنى اكتسبوا دينهم وعملوه وأظهروا اللعب واللهو أي للدّنيا واكتسابها ويظهر من بعض كلام الزمخشري وابن عطية أن { لعباً ولهواً } هو المفعول الأول لاتخذوا و { دينهم } هو المفعول الثاني .

قال الزمخشري : أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به { لعباً ولهواً } وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك من باب اللعب واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة ، ومن جنس الهزل دون الجدّ واتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم واتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه هو دين الإسلام { لعباً ولهواً } حيث سخروا به واستهزؤوا ؛ انتهى .

فظاهر تقديره الثاني هو ما ذكرناه عنه .

وقال ابن عطية : وأضاف الدين إليهم على معنى أنهم جعلوا اللهو واللعب ديناً ويحتمل أن يكون المعنى { اتخذوا دينهم } الذي كان ينبغي لهم { لعباً ولهواً } ؛ انتهى .

فتفسيره الأول هو ما ذكرناه عنه .

قال الزمخشري : وقيل : جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين ، وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم { لعباً ولهواً } غير المسلمين فإنهم اتخذوا دينهم عيدهم كما شرعه الله ومعنى ذرهم أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم ؛ انتهى .

{ وغرّتهم الحياة الدنيا } يحتمل أن يكون معطوفاً على الصلة وأن يكون استئناف إخبار أي خدعتهم الغرور وهي الأطماع فيما لا يتحصل فاغتروا بنعم الله ورزقه وإمهاله إياهم .

وقيل : غرّتهم بتكذيبهم بالبعث .

وقال أبو عبد الله الرازي : لأجل استيلاء حب الدنيا أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوصلوا بها إلى حطام الدنيا ؛ انتهى .

وقيل : { غرتهم } من الغرّ بفتح الغين أي ملأت أفواههم وأشبعتهم .

ومنه قول الشاعر :

ولما التقينا بالحليبة غرّني *** بمعروفه حتى خرجت أفوق

ومنه غر الطائر فرخه .

{ وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت } الضمير في { به } عائد على القرآن أو على { الذين } أو على { حسابهم } ثلاثة أقوال : أولاها الأوّل كقوله : { فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } و { تبسل } ، قال ابن عباس : تفضح .

وقال الحسن وعكرمة : تسلم .

وقال قتادة : تحبس وترتهن .

وقال الكلبي وابن زيد والأخفش : تجزي .

وقال الضحاك : تحرق .

وقال ابن زيد أيضاً : يؤخذ .

وقال مؤرخ : تعذب .

وقيل يحرم عليها النجاة ودخول الجنة .

وقال أبو بكر : استحسن بعض شيوخنا قول من قال : تسلم بعملها لا تقدر على التخلص لأنه يقال : استبسل للموت أي رأى ما لا يقدر على دفعه واتفقوا على أن { تبسل } في موضع المفعول من أجله وقدروا كراهة { أن تبسل } ومخافة { أن تبسل } ولئلا { تبسل } ويجوز عندي أن يكون في موضع جر على البدل من الضمير ، والضمير مفسر بالبدل وأضمر الإبسال لما في الإضمار من التفخيم كما أضمر الأمر والشأن وفسر بالبدل وهو الإبسال فالتقدير وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت كما قالوا : اللهم صل عليه الرؤوف الرحيم وقد أجاز ذلك سيبويه قال : فإن قلت ضربت وضربوني قومك نصبت إلا في قول من قال : أكلوني البراغيث أو يحمله على البدل من المضمر وقال أيضاً : فإن قلت ضربني وضربتهم قومك رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدل كما جعلته في الرفع ؛ وقد روي قوله :

تنخل فاستاكت به عود أسحل *** بجر عود على أنه بدل من الضمير والمعنى { أن تبسل } نفس تاركة للإيمان بما كسبت من الكفر أو بكسبها السيئ .

{ ليس لها من دون الله } أي من دون عذاب الله .

{ ولي } فينصرها .

{ ولا شفيع } فيدفع عنها بمسألته وهذه الجملة صفة أو حال أو مستأنفة إخبار وهو الأظهر و { من } لابتداء الغاية .

وقال ابن عطية : ويجوز أن تكون زائدة ؛ انتهى ، وهو ضعيف .

{ وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها } أي وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأن الفادي يعدل الفداء بمثله ، ونقل عن أبي عبيدة أن المعنى بالعدل هنا ضدّ الجور وهو القسط أي وإن تقسط كل قسط بالتوحيد والانقياد بعد العناد وضعف هذا القول الطبري بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة ، ولا يلزم هذا لأنه إخبار عن حالة يوم القيامة وهي حال معاينة وإلجاء لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، قالوا : وانتصب { كل عدل } على المصدر ويؤخذ الضمير فيه عائد على المعدول به المفهوم من سياق الكلام ولا يعود على المصدر لأنه لا يسند إليه الأخذ وأما في { لا يؤخذ منها } عدل فمعنى المفدى به فيصح إسناده إليه ويجوز أن ينتصب كل عدل على المفعول به أي { وإن تعدل } بذاتها { كل } أي كل ما تفدى به { لا يؤخذ منها } ويكون الضمير على هذا عائداً على { كل عدل } وهذه الجملة الشرطية على سبيل الفرض والتقدير لا على سبيل إمكان وقوعها .

{ أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } الظاهر أنه يعود على الذين اتخذوا } وقاله الحوفي وتبعه الزمخشري .

وقال ابن عطية : { أولئك } إشارة إلى الجنس المدلول عليه بقوله : { أن تبسل نفس } .

{ لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } الأظهر أنها جملة استئناف إخبار ويحتمل أن تكون حالاً وشراب فعال بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم ولا ينقاس فعال بمعنى مفعول ، لا يقال : ضراب ولا قتال بمعنى مضروب ولا مقتول .