فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَذَرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمۡ لَعِبٗا وَلَهۡوٗا وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَاۚ وَذَكِّرۡ بِهِۦٓ أَن تُبۡسَلَ نَفۡسُۢ بِمَا كَسَبَتۡ لَيۡسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ وَإِن تَعۡدِلۡ كُلَّ عَدۡلٖ لَّا يُؤۡخَذۡ مِنۡهَآۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أُبۡسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْۖ لَهُمۡ شَرَابٞ مِّنۡ حَمِيمٖ وَعَذَابٌ أَلِيمُۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡفُرُونَ} (70)

{ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون 70 } .

{ وذر الذين اتخذوا دينهم } أي اترك هؤلاء الذين اتخذوا الدين الذي كان يحق عليهم العمل به والدخول فيه ودعوا إليه وهو دين الإسلام { لعبا ولهوا } حيث سخروا به واستهزؤوا فيه ، فلا تعلق قلبك بهم فإنهم أهل تعنت وإن كنت مأمورا بإبلاغهم الحجة ، وقيل هذه الآية منسوخة بآية القتل ، وقيل المعنى أنهم اتخذوا دينهم الذي هم عليه لعبا ولهوا كما في فعلهم بالأنعام من تلك الجهالات والضلالات المتقدم ذكرها .

وقيل المراد بالدين هنا العيد أي اتخذوا عيدهم لعبا ولهوا قال قتادة أي أكلا وشربا وكذا من جعل طريقته الخمر والزمر والرقص ونحوه ، وفي البيضاوي بنوا أمر دينهم على التشهي وتدينوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلا وآجلا كعبادة الصنم وتحريم البحائر والسوائب ، والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم ، وقال مجاهد : هو مثل قوله : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) يعني أنه للتهديد ، وعلى هذا تكون الآية محكمة .

{ وغرتهم الحياة الدنيا } حتى آثروها على الآخرة وأنكروا البعث وقالوا [ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ] { وذكر به } أي القرآن أو بالحساب أي ل { أن } لا { تبسل نفس } الإبسال تسليم المرء نفسه للهلاك ومنه أبسلت ولدي أي رهنته في الدم ، لأن عاقبته ذلك الهلاك ، وأصل الإبسال والبسل ولدي في اللغة التحريم والمنع ، يقال هذا عليك بسل أي حرام ممنوع ، ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه أو لأنه ممتنع ، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه ، وهذا بسيل عليك أي ممنوع .

قال أبو عبيدة : المتبسل الذي يسلم نفسه على الموت أو الضرب وإن استبسل أي أن يطرح نفسه في الحرب ويريد أن يقتل ، فالمعنى وذكر به خشية أو مخافة أو كراهة أن تهلك نفس { بما كسبت } أي ترتهن وتسلم للهلكة وتحبس في جهنم وتحرم من الثواب بسبب ما كسبت من الآثام .

وعن ابن عباس : أن تبسل أن تفضح وأبسلوا فضحوا وقال قتادة :تحبس في جهنم وقال الضحاك : تحرق بالنار وقال ابن زيد : تؤخذ به .

{ ليس لها } أي لتلك النفس التي هلكت { من دون الله } من لابتداء الغاية وقيل : إنها زائدة نقله ابن عطية وليس بشيء ، والأول أظهر { ولي } قريب ناصر يلي أمرها { ولا شفيع } يشفع في الآخرة ويمنع عنها العذاب .

{ وإن تعدل كل عدل } العدل هنا الفدية والمعنى وإن بذلت تلك النفس التي سلمت للهلاك كل فدية { لا يؤخذ منها } ذلك العدل حتى تنجو به من الهلاك { أولئك } أي المتخذون دينهم لعبا ولهوا وهو مبتدأ ، وخبره { الذين أبسلوا } أي أسلموا للهلاك { بما كسبوا } أي بجرائرهم .

وجملة { لهم شراب من حميم } مستأنفة كأنه قيل كيف هؤلاء فقيل لهم شراب ، الآية وهو الماء الحار البالغ نهاية الحرارة ومثله قوله تعالى : { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } وهو هنا شراب يشربونه فيقطع أمعاءهم { وعذاب أليم } مؤلم { بما كانوا يكفرون } أي بسبب كفرهم .