4- يسألك المؤمنون - أيها الرسول - ماذا أحل الله لهم من طعام وغيره فقل لهم : أحلّ الله لكم كل طيب تستطيبه النفوس السليمة ، وأحلّ لكم ما تصطاده الجوارح التي علمتموها الصيد بالتدريب ، مستمدين ذلك مما علمكم الله . فكلوا من صيدها الذي أرسلتموها إليه وأمسكته عليكم ، واذكروا اسم الله عند إرسالها ، واتقوا الله بالتزام ما شرع لكم ، ولا تتجاوزوه ، واحذروا مخالفة الله فيه ، فإنه سريع الحساب .
قوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } الآية . قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم ، وزيد بن المهلهل الطائيين ، وهو زيد الخيل ، الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير ، قالا : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت هذه الآية . وقيل : سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب قالوا : يا رسول الله ، ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فنزلت هذه الآية . فلما نزلت أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الزيادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية ، أو صيد ، أو زرع ، انتقص من أجره كل يوم قيراط " ، والأول أصح في نزول الآية .
قوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } . يعني الذبائح على اسم الله تعالى ، وقيل : كل ما تستطيبه العرب وتستلذه ، من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة .
قوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } . يعني : وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح . واختلفوا في هذه الجوارح ، فقال الضحاك والسدي : هي الكلاب دون غيرها ، ولا يحل ما صاده غير الكلب إلا أن تدرك ذكاته ، وهذا غير معمول به ، بل عامة أهل العلم على أن المراد بالجوارح الكواسب من السباع البهائم ، كالفهد ، والنمر ، والكلب . ومن سباع الطير كالبازي ، والعقاب ، والصقر ، ونحوها مما يقبل التعليم ، فيحل صيد جميعها . سميت جارحة : لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد ، أي : كسبها ، يقال : فلان جارحة أهله أي : كاسبهم .
قوله تعالى : { مكلبين } . والمكلب الذي يغري الكلاب على الصيد ، ويقال للذي يعلمها أيضاً مكلب ، والكلاب صاحب الكلاب ، ويقال : الصائد بها أيضا كلاب ، ونصب مكلبين على الحال ، أي : في حال تكليبكم هذه الجوارح أي إغرائكم إياها على الصيد ، وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم ، والمراد جميع جوارح الصيد .
قوله تعالى : { تعلمونهن } . تؤدبونهن آداب أخذ الصيد .
قوله تعالى : { مما علمكم الله } . أي : من العلم الذي علمكم الله . قال السدي : أي كما علمكم الله ، فمن بمعنى الكاف .
قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } . أراد أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها ، فأخذت الصيد وقتلته كان حلالاً ، والتعليم هو : أن يوجد بها ثلاثة أشياء ، إذا أشليت استشلت ، وإذا زجرت انزجرت ، وإذا أخذت الصيد أمسكت ، ولم تأكل ، وإذا وجد ذلك منه مراراً ، وأقله ثلاث مرات ، كانت معلمة يحل قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا موسى بن إسماعيل ، أن ثابت ابن زيد ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت ، فأمسك وقتل فكل ، وإن أكل فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه ، وإذا خالط كلاباً لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل ، فإنك لا تدري أيها قتل ، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل ، وإن وقع في الماء فلا تأكل .
واختلفوا فيما إذا أخذت الصيد وأكلت منه شيئاً : فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه ، روي ذلك عن ابن عباس ، وهو قول عطاء ، وطاووس ، والشعبي ، وبه قال الثوري ، وابن المبارك ، وأصحاب الرأي ، وهو أصح قولي الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن أكل فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه " . ورخص بعضهم في أكله ، روي ذلك عن ابن عمر ، وسلمان الفارسي ، وسعد بن أبي وقاص ، وقال مالك : لما روي عن أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أرسلت كلبك ، وذكرت اسم الله تعالى فكل ، وإن أكل منه " .
أما غير المعلم من الجوارح إذا أخذ صيداً ، والمعلم إذا جرح بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل ، فلا يكون حلالاً ، إلا أن يدركه صاحبه حياً فيذبحه ، فيكون حلالاً .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عبد الله بن يزيد ، أنا حيوة ، أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي ، عن أبي إدريس ، عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : قلت : يا نبي الله ، إنا بأرض قوم أهل الكتاب ، أفنأكل في آنيتهم ؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم ، وبكلبي المعلم ، فما يصح لي ؟ قال : أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوا وامسكوا فيها ، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل " .
قوله تعالى : { واتقوا الله إن الله سريع الحساب } ، ففيه بيان أن ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة شرط حالة ما يذبح ، وفي الصيد حالة ما يرسل الجارحة أو السهم . أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن علوية الجوهري قال : أنا أبو العباس محمد بن أحمد بن الأثرم المقري بالبصرة ، حدثنا عمر بن شيبة ، أنا أبو عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : " ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ، قال : رأيته واضعاً قدمه على صفاحهما ، ويذبحهما بيده ويقول : بسم الله والله أكبر " .
{ يسألونك ماذا أحل لهم } لما تضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة ، وقد سبق الكلام في { ماذا } وإنما قال لهم ولم يقل لنا على الحكاية ، لأن { يسألونك } بلفظ الغيبة وكلا الوجهين سائغ في أمثاله ، والمسؤول ما أحل لهم من المطاعم كأنهم لما تلي عليهم ما حرم عليهم سألوا عما أحل لهم . { قل أحل لكم الطيبات } ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه ومن مفهومه حرم مستخبثات العرب ، أو ما لم يدل نص ولا قياس على حرمته . { وما علمتم من الجوارح } عطف على { الطيبات } إن جعلت { ما } موصولة على تقدير وصيد ما علمتم ، وجملة شرطية إن جعلت شرطا وجوابها { فكلوا } و{ الجوارح } كواسب الصيد على أهلها من سباع ذوات الأربع والطير { مكلبين } معلمين إياه الصيد ، والمكلب مؤدب الجوارح ومضر بها بالصيد . مشتق من الكلب ، لأن التأديب يكون أكثر فيه وآثر ، أو لأن كل سبع يسمى كلبا لقوله عليه الصلاة والسلام " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " وانتصابه على الحال من علمتم وفائدتها المبالغة في التعليم .
{ تعلمونهن } حال ثانية أو استئناف . { مما علمكم الله } من الحيل وطرق التأديب ، فإن العلم بها إلهام من الله تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه سبحانه وتعالى ، أو مما علمكم الله أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه ، وأن ينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه . { فكلوا مما أمسكن عليكم } وهو ما لم تأكل منه لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم " وإن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك على نفسه " . وإليه ذهب أكثر الفقهاء وقال بعضهم : لا يشترط ذلك في سباع الطير لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر ، وقال آخرون لا يشترط مطلقا . { واذكروا اسم الله عليه } الضمير لما علمتم والمعنى : سموا عليه عند إرساله أو لما أمسكن بمعنى سموا عليه إذا أدركتم ذكاته . { واتقوا الله } في محرماته . { إن الله سريع الحساب } فيؤاخذكم بما جل ودق .