قوله تعالى : { فلما قضينا عليه الموت } أي : على سليمان . قال أهل العلم : كان سليمان عليه السلام يتجرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر . يدخل فيه طعامه وشرابه ، فأدخل في المرة التي مات فيها ، وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوماً إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا ، فيقول : لأي شيء أنت ؟ فتقول : لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع ، فإن كانت نبتت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كتب ، حتى نبتت الخروبة ، فقال لها : ما أنت ؟ قالت : الخروبة ، قال : لأي شيء نبت ؟ قالت : لخراب مسجدك ، فقال سليمان : ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ! فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم قال : اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء ويعلمون ما في غد ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئاً على عصاه فمات قائماً وكان للمحراب كوى بين يديه وخلفه ، فكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته ، وينظرون إليه يحسبون أنه حي ، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك ، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولاً كاملاً حتى أكلت الأرضة عصا سليمان ، فخر ميتاً فعلموا بموته . قال ابن عباس : فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب ، فذلك قوله : { ما دلهم على موته إلا دابة الأرض } وهي الأرضة التي { تأكل منسأته } يعني : عصاه ، قرأ أهل المدينة ، وأبو عمرو : منسأته بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز ، وهما لغتان ، ويسكن ابن عامر الهمز ، وأصلها من : نسأت الغنم ، أي : زجرتها وسقتها ، ومنه : نسأ الله في أجله ، أي : أخره . { فلما خر } أي : سقط على الأرض ، { تبينت الجن } أي : علمت الجن وأيقنت ، { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } أي : في التعب والشقاء مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حياً ، أراد الله بذلك أن يعلم الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا يظنون أنهم يعلمون الغيب ، لغلبة الجهل عليهم . وذكر الأزهري : أن معناه ( تبينت الجن ) أي : ظهرت وانكشفت الجن للإنس ، أي : ظهر أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب ، لأنهم كانوا قد شبهوا على الإنس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس : تبينت الإنس أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، أي : علمت الإنس وأيقنت ذلك . وقرأ يعقوب : تبينت بضم التاء وكسر الياء أي : أعلمت الإنس الجن ، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله ، وتبين لازم ومتعد . وذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثاً وخمسين سنة ، ومدة ملكه أربعون سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتداء في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه .
يذكر تعالى كيفية موت سليمان ، عليه السلام ، وكيف عَمَّى الله موته على الجانّ المسخرين له في الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئًا على عصاه - وهي مِنْسَأته - كما قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغير واحد - مدة طويلة نحوا من سنة ، فلما أكلتها{[24200]} دابةُ الأرض ، وهي الأرضة ، ضعفت{[24201]} وسقط{[24202]} إلى الأرض ، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة - تبينت الجن والإنس أيضًا أن الجن لا يعلمون الغيب ، كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك .
قد ورد في ذلك حديث مرفوع غريب ، وفي صحته نظر ، قال ابن جرير :
حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا موسى بن مسعود أبو حذيفة ، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان ، عن عطاء ، عن السائب ، عن سعيد بن جبير{[24203]} عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان سليمان نبي الله ، عليه السلام ، إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها : ما اسمك ؟ فتقول : كذا . فيقول : لأي شيء أنت ؟ فإن كانت لغرس غُرِسَتْ ، وإن كانت لدواء كُتِبَتْ . فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه ، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروب . قال : لأي شيء أنت ؟ قالت : لخراب هذا البيت . فقال سليمان : اللهم ، عَمّ على الجن موتتي{[24204]} حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب . فنحتها عصًا ، فتوكأ عليها حولا ميتا ، والجن تعمل . فأكلتها الأرضة ، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا [ حولا ]{[24205]} في العذاب المهين " .
قال : وكان ابن عباس يقرؤها كذلك قال : " فشكرت الجن الأرضة{[24206]} ، فكانت تأتيها بالماء " {[24207]} .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث إبراهيم بن طَهْمان ، به . وفي رفعه غرابة ونكارة ، والأقرب أن يكون موقوفًا ، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات ، وفي بعض حديثه نكارة .
وقال السُّدِّي ، في حديث ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : كان سليمان يتحرر في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر ، يدخل طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي توفي فيها ، وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة ، فيأتيها فيسألها ، فيقول : ما اسمك ؟ فتقول : اسمي كذا وكذا . فإن كانت لغرس غرسها ، وإن كانت نبْتَ دواء قالت : نَبَتُّ دواء لكذا وكذا . فيجعلها{[24208]} كذلك ، حتى نبتت شجرة يقال لها : الخرّوبة ، فسألها : ما اسمك ؟ فقالت : أنا الخروبة . قال : ولأي شيء نَبَتِّ ؟ قالت : نبت لخراب هذا المسجد . قال سليمان : ما كان الله ليُخَرِّبه وأنا حي ؟ أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس . فنزعها وغرسها في حائط له ، ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه ، فمات ولم تعلم{[24209]} به الشياطين ، وهم في ذلك يعملون له ، يخافون أن يخرج فيعاقبهم . وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب ، وكان المحراب له كُوى بين يديه وخلفه ، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول : ألست جلدا{[24210]} إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب ؟ فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر ، فدخل شيطان من أولئك فمر ، ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان في المحراب إلا احترق . فمر ولم يسمع صوت سليمان ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق . ونظر إلى سليمان ، عليه السلام ، قد سقط ميتا . فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات . ففتحوا{[24211]} عنه فأخرجوه . وَوَجدوا منسأته - وهي : العصا بلسان الحبشة - قد أكلتها الأرضة ، ولم يعلموا منذ كم مات ؟ فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوما وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة . وهي في قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولا{[24212]} ، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ولو أنهم علموا الغيب ، لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب يعملون له سنة ، وذلك قول الله{[24213]} عز وجل : { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } . يقول : تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم ، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة : لو كنت تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليك الماء والطين - قال : فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت - قال : ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب ؟ فهو ما تأتيها به الشياطين ، شكرًا{[24214]} لها . {[24215]}
وهذا الأثر - والله أعلم - إنما هو مما تُلُقِّي من علماء أهل الكتاب ، وهي وَقْفٌ ، لا يصدق منها{[24216]} إلا ما وافق الحق ، ولا يُكذب منها إلا ما خالف الحق ، والباقي لا يصدق ولا يكذب{[24217]} .
وقال ابن وهب وأصبغ بن الفرج ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ } قال : قال سليمان عليه السلام لملك الموت : إذا أُمِرْتَ بي فأعلمني . فأتاه فقال : يا سليمان ، قد أمرت بك ، قد بقيت لك سويعة . فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ، وليس له باب ، فقام يصلي فاتكأ على عصاه ، قال : فدخل عليه ملك الموت ، فقبض روحه وهو متكئ على عصاه ، ولم يصنع ذلك فرارًا من ملك الموت . قال : والجن يعملون{[24218]} بين يديه وينظرون إليه ، يحسبون أنه حي . قال : فبعث الله ، عز وجل ، دابة الأرض . قال : والدابة تأكل العيدان - يقال لها : القادح - فدخلت فيها فأكلتْها ، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت ، وثقل عليها فخر ميتًا ، فلما رأت ذلك الجن انفضوا وذهبوا . قال : فذلك قوله : { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهِ } . قال أصبغ : بلغني عن غيره أنها قامت{[24219]} سنة تأكل منها قبل أن يخر{[24220]} . وقد ذكر غير واحد من السلف نحوًا من هذا ، والله أعلم .
تفريع على قوله : { ومن الجن من يعمل بين يديه } إلى قوله : { وقدور راسيات } [ سبأ : 12 ، 13 ] أي دام عملهم له حتى مات { فلما قضينا عليه الموت } إلى آخره . ولا شك أن ذلك لم يطل وقتُه لأن مثله في عظمةِ ملكه لا بد أن يفتقده أتباعُه ، فجملة { ما دلهم على موته } الخ جواب « لمَّا قضينا عليه الموت » .
وضمير { دلهم } يعود إلى معلوم من المقام ، أي أهلَ بَلاطه .
والدلالة : الإِشْعار بأمر خفيّ . وتقدم ذلك عند قوله تعالى : { وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل } [ سبأ : 7 ] .
و { دابة الأرض } هي الأَرَضَة ( بفتحات ثلاث ) وهي السُّرْفة بضم السين وسكون الراء وفتح الفاء لا محالة وهاء تأنيث : سوس ينخر الخشب . فالمراد من الأرض مصدرُ أَرَضَت السُّرفَة الخَشَبَ من باب ضَرب ، وقد سخر الله لمنساة سليمان كثيراً من السُرْف فتعَجَّل لها النخر .
وجملة { فلما خر } مفرعة على جملة { ما دلهم على موته } . وجملة { تبينت الجن } جواب « لمّا خرّ » . والمِنساة بكسر الميم وفتحها وبهمزة بعد السين ، وتخفَّفُ الهمزة فتصير ألفاً هي العَصا العظيمة ، قيل : هي كلمة من لغة الحبشة .
وقرأ نافع وأبو عَمرو بألف بعد السين . وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف وهشام عن ابن عامر بهمزة مفتوحة بعد السين . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر بهمزة ساكنة بعد السين تخفيفاً وهو تخفيف نادر .
وقرأ الجمهور : { تبينت الجن } بفتح الفوقية والموحدة والتحتية . وقرأه رُويس عن يعقوب بضم الفوقية والموحدة وكسر التحتية بالبناء للمفعول ، أي تبين الناس الجنّ . و { أن لو كانوا يعلمون } بدل اشتمال من الجن على كلتا القراءتين .
وقوله : { تبينت الجن } إسنادُ مُبهم فصَّله قوله : { أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } ف { أَن } مصدرية والمصدر المنسبك منها بدل من { الجن } بدلَ اشتمال ، أي تبينت الجنُّ للناس ، أي تبين أمرهم أنهم لا يعلمون الغيب ، أي تبين عدم علمهم الغيب ، ودليل المحذوف هو جملة الشرط والجواب .
و { العذاب المهين } : المذل ، أي المؤلم المتعب فإنهم لو علموا الغيب لكان علمهم بالحاصل أزَليًّا ، وهذا إبطال لاعتقاد العامة يومئذٍ وما يعتقده المشركون أن الجن يعلمون الغيب فلذلك كان المشركون يستعلِمون المغيبات من الكهان ، ويزعمون أن لكل كاهن جِنِّيًّا يأتيه بأخبار الغيب ، ويسمونه رَئيًّا إذ لو كانوا يعلمون الغيب لكان أن يعلموا وفاة سليمان أهونَ عليهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما أمضينا قضاءنا على سليمان بالموت فمات، "ما دَلّهُمْ عَلى مَوْتِهِ "يقول: لم يدلّ الجنّ على موت سليمان "إلاّ دَابّةُ الأرْضِ" وهي الأَرَضَة وقعت في عصاه، التي كان متكئا عليها فأكلتها، فذلك قول الله عزّ وجلّ "تَأْكُلُ مِنْسأَتَهُ"... وقوله: "فَلَمّا خَرّ تَبَيّنَتِ الجِنّ" يقول عزّ وجلّ: فلما خرّ سليمان ساقطا بانكسار منسأته تبيّنت الجنّ أنْ لو كانوا يعلمون الغَيْبَ الذي يدّعون علمه "ما لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ" المذلّ حولاً كاملاً بعد موت سليمان، وهم يحسبون أن سليمان حيّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض} دل هذا على أن موته كان بحضرة أهله ومشهد منهم حيث ذكر: {ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته}.
ودل قوله تعالى: {ما دلّهم على موته إلا دابة الأرض} على أنهم كانوا لا يدنون منه لأحد وجهين: إما لهيبته وسلطانه على الناس، فإن كان ذلك طاع له كل شيء، وخضع الجن والطير والوحش وغير ذلك، وإما لما كان يُكثر العبادة لله والخضوع له بتوحيده، وينفرد بنفسه، لم يجترئوا أن يدنوا منه، وإلا لو دَنَوا منه لرأوا فيه آثار الموت.
{تأكل مِنسأتَه} قيل المِنسأة العصا، سمّى مِنسأة من النساء لأنه كان بها يؤخّر ما أراد تأخيره، وبها يدفع ما أراد دفعه.
في إمساكه العصا أحد وجهين: إما لضعفه في نفسه، كان يتقوّى بها في أمور ربه، وإما يمسكها لخضوعه إلى ربه وطاعته له، وفيه دلالة أن الأنبياء عليهم السلام كانوا لا يشغلهم المُلك وفُضَل الدنيا ولا الحاجة ولا الفقر عن القيام بأمر الله وتبليغ الرسالة إلى الناس، وهما شاغلان لغيرهم.
ودلّ قوله: {ما لبِثوا في العذاب المُهين} أنه كان يأمرهم، ويستعملهم في أمور شاقة وأعمال صعبة حين ذكر لبثهم في ذلك لبثًا في العذاب المهين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وهكذا المَلِكُ الذي يقوم مُلكُه بغيره، ويكون استمساكه بعصا، فإنه إذا سَقَطَ سَقَطَ بسقوطه، ومَنْ قام بغيره زال بزواله.
لما بين عظمة سليمان وتسخير الريح والروح له، بين أنه لم ينج من الموت، وأنه قضى عليه الموت، تنبيها للخلق على أن الموت لا بد منه، ولو نجا منه أحد لكان سليمان أولى بالنجاة منه.
{ما لبثوا في العذاب المهين} دليل على أن المؤمنين من الجن لم يكونوا في التسخير، لأن المؤمن لا يكون في زمان النبي في العذاب المهين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ربما استبعد موت من هو على هذه الصفة من ضخامة الملك بنفوذ الأمر وسعة الحال وكثرة الجنود، أشار إلى سهولته بقرب زمنه وسرعة إيقاعه على وجه دال على بطلان تعظيمهم للجن بالإخبار بالمغيبات بعد تنبيههم على مثل ذلك باستخدامه لهم بقوله: {فلما} بالفاء، ولذلك عاد إلى مظهر الجلال فقال: {قضينا} وحقق صفة القدرة بأداة الاستعلاء فقال: {عليه} أي سليمان عيله السلام {الموت ما دلهم} أي جنوده وكل من في ملكه من الجن والإنس وغيرهم من كل قريب وبعيد {على موته} لأنا جعلنا له من سعة العلم ووفور الهيبة ونفوذ الأمر ما تمكن به من إخفاء موته عنهم {إلا دآبة الأرض} فخمها بهذه الإضافة التي من معناها أنه لا دابة للأرض غيرها لما أفادته من العلم ولأنها لكونها تأكل من كل شيء من أجزاء الأرض من الخشب والحجر والتراب والثياب وغير ذلك أحق الدواب بهذا الاسم، ويزيد ذلك حسناً ان مصدر فعلها أرض بالفتح والإسكان فيصير من قبيل التورية ليشتد التشوف إلى تفسيرها، ثم بين أنها الأرضة بقوله مستأنفاً في جواب من كأنه قال: أي دابة هي وبما دلت: {تأكل منسأته} أي عصاه التي مات وهو متكئ... {فلما خر} أي سقط على الأرض بعد أن قصمت الأرضة عصاه {تبينت الجن} أي علمت علماً بيناً لا يقدرون معه على تدبيج وتدليس، وانفضح أمرهم وظهر ظهوراً تاماً {أن} أي أنهم {لو كانوا} أي الجن {يعلمون الغيب} أي علمه {ما لبثوا} أي أقاموا حولاً مجرماً {في العذاب المهين} من ذلك العمل الذي كانوا مسخرين فيه، والمراد إبطال ما كانوا يدعونه من علم الغيب على وجه الصفة، لأن المعنى أن دعواهم ذلك إما كذب أو جهل، فأحسن الأحوال لهم أن يكون جهلاً منهم، وقد تبين لهم الآن جهلهم بياناً لا يقدرون على إنكاره، ويجوز أن تكون "أن "تعليلية، ويكون التقدير: تبين حال الجن فيما يظن بهم من أنهم يعلمون الغيب، لأنهم إلى آخره... وفي هذا توبيخ للعرب أنهم يصدقون من ثبت بهذا الأمر أنهم لا يعلمون الغيب في الخرافات التي تأتيهم بها الكهان وغيرهم مما يفتنهم والحال أنهم يشاهدون منه كذباً كبيراً، فكانوا بذلك مساوين لمن يخبر من الآدميين عن بعض المغيبات بظن يظنه أو منام يراه أو غير ذلك، فيكون كما قال -هذا مع إعراضهم عمن يخبرهم بالآخرة شفقة عليهم ونصيحة لهم، وما أخبرهم بشيء قط إلا ظهر صدقه قبل ادعائه للنبوة وبعده، وأظهر لهم من المعجزات ما بهر العقول، وقد تقرر أن كل شيء ثبت لمن قبل نبينا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء من الخوارق ثبت له مثله أو أعظم منه إما له نفسه أو لأحد من أمته...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفي الآية دليل على أن الغيب لا يختص بالأمور المستقبلة بل يشمل الأمور الواقعة التي هي غائبة عن الشخص أيضا.
ومن باب الإشارة: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاْرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ: 14] فيه إشارة إلى أن الضعيف قد يفيد القوي علماً.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والكتاب الكريم لم يحدد المدة التي قضاها سليمان وهو متكئ على عصاه حتى علم الجن بموته، وقد روى القصاصون أنها كانت سنة، ومثل هذا لا ينبغي الركون إليه، فليس من الجائز أن خدم سليمان لا يتنبهون إلى القيام بواجباته المعيشية من مأكل ومشرب وملبس ونحوها يوما كاملا دون أن يحادثوه في ذلك ويطلبوا إليه القيام بخدمته، فالمعقول أن الأرضة بدأت العصا وسليمان لم يتنبه لذلك، وبينما هو متوكئ عليها حانت منيته، وكانت الأرضة قد فعلت فعلها في العصا فانكسرت فجر على الأرض فعلمت الجن كذبها، إذ كانت تدعي أنها تعلم الغيب إذ لو علمته ما لبثت ترهق نفسها في شاق الأعمال التي كلفت بها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهؤلاء هم الجن الذين يعبدهم بعض الناس. هؤلاء هم سخرة لعبد من عباد الله. وهؤلاء هم محجوبون عن الغيب القريب؛ وبعض الناس يطلب عندهم أسرار الغيب البعيد!
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
قصّة النّبي سليمان (عليه السلام) ككثير من قصص الأنبياء، اختلطت مع الأسف بروايات كثيرة موضوعة وخرافات شوّهت صورة هذا النّبي العظيم، وأكثر هذه الخرافات أخذت من التوراة الرائجة اليوم، ولو اقتنعنا بما ورد في القرآن الكريم حول هذا النّبي لما واجهتنا أيّة مشكلة.