قوله تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا } . قرأ حمزة هذا والذي بعده بالتاء فيهما ، وقرأ الآخرون بالياء ، فمن قرأ بالياء " فالذين " في محل الرفع على الفاعل تقديره ولا يحسبن الكفار إملاءنا لهم خيراً ، ومن قرأ بالتاء يعني ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا ، وإنما نصب على البدل من الذين .
قوله تعالى : { إنما نملي لهم خير لأنفسهم } . والإملاء الإمهال والتأخير ، يقال : عشت طويلاً حميداً وتمليت حيناً ، ومنه قوله تعالى ( واهجرني مليا ) . أي حيناً طويلاً ، ثم ابتدأ فقال :
قوله تعالى : { إنما نملي لهم } . نمهلهم .
قوله تعالى : { ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين } . قال مقاتل : نزلت في مشركي مكة ، وقال عطاء في قريظة والنضير .
أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله القفال ، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي ، أنا أبو أحمد بكر بن محمد حمدان الصيرفي ، أنا محمد بن يونس ، أنا أبو داود الطيالسي ، أنا شعبة عن علي بن زيد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي الناس خير ؟ قال : من طال عمره وحسن عمله قيل : فأي الناس شر ؟ قال : من طال عمره وساء عمله " .
ثم قال تعالى : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } كقوله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ . نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55 ، 56 ] ، وكقوله { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] ، وكقوله { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] .
{ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم } خطاب للرسول عليه السلام ، أو لكل من يحسب . والذين مفعول و{ أنما نملي } لهم بدل منه ، وإنما اقتصر على مفعول واحد لأن التعويل على البدل وهو ينوب عن المفعولين كقوله تعالى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون } . أو المفعول الثاني على تقدير مضاف مثل : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم ، أو ولا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم ، وما مصدرية وكان حقها أن تفصل في الخط ولكنها وقعت متصلة في الإمام فاتبع . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب بالياء على { إن الذين } فاعل وإن مع ما في حيزه مفعول وفتح سينه في جميع القرآن ابن عامر وحمزة وعاصم . والإملاء الإمهال وإطالة العمر . وقيل تخليتهم وشأنهم ، من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعي كيف شاء . { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما } استئناف بما هو العلة للحكم قبلها ، وما كافة واللام لام الإرادة . وعند المعتزلة لام العاقبة . وقرئ { إنما } بالفتح هنا وبكسر الأولى ولا يحسبن بالياء على معنى { ولا يحسبن الذين كفروا } أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم بل للتوبة والدخول في الإيمان ، و{ إنما نملي لهم خير } اعتراض . معناه أن إملاءنا خير لهم أن انتبهوا وتداركوا فيه ما فرط منهم . { ولهم عذاب مهين } على هذا يجوز أن يكون حالا من الواو أي ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين .
{ نملي } معناه : نمهل ونمد في العمر ، والملاوة : المدة من الدهر والملوان الليل والنهار وتقول : ملاك الله النعمة أي منحكها عمراً طويلاً ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : «يحسبن » بالياء من أسفل وكسر السين وفتح الباء ، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في السين فإنه فتحها وقرأ حمزة تحسبن . بالتاء من فوق الباء ، وقرأ ابن عامر كذلك إلا في -السين- فإنه فتحها ، وقرأ حمزة «تحسبن » . بالتاء من فوق وفتح السين ، وقرأ عاصم والكسائي ، كل ما في هذه السورة بالتاء من فوق إلا حرفين ، قوله { ولا يحسبن الذين كفروا } في هذه الآية وبعدها { ولا يحسبن الذين يبخلون } فأما من قرأ «ولا يحسبن » بالياء من أسفل فإن { الذين } فاعل وقوله { إنما نملي لهم خير } بفتح الألف من «أنما » ساد مسد مفعولي حسب ، وذلك أن «حسب » وما جرى مجراها تتعدى إلى مفعولين أو إلى مفعول يسد مسد مفعولين ، وذلك إذا جرى في صلة ما تتعدى إليه ذكر الحديث والمحدث عنه ، قال أبو علي : وكسر «إن » في قوله من قرأ «يحسبن » بالياء لا ينبغي ، وقد قرىء فيما حكاه غير أحمد بن موسى{[3730]} وفي غير السبع ، ووجه ذلك أن يتلقى بها القسم كما يتلقى بلام الابتداء ، ويدخلان على الابتداء والخبر ، أعني -اللام- وإن فعلق عن «إنما » عمل الحسبان كما تعلق عن اللام في قولك : حسبت لزيد قائم ، فيعلق الفعل عن العمل لفظاً ، وأما بالمعنى فما بعد «أن أو اللام » ففي موضع مفعولي «حسب » ، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ، ففي { نملي } عائد مستكن ، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى تقدير عائد وأما من قرأ «ولا تحسبن » بالتاء فالذين مفعول أول للحسبان ، قال أبو علي : وينبغي أن تكون الألف من «إنما » مكسورة في هذه القراءة ، وتكون «إن » وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني لتحسبن ، ولا يجوز فتح الألف من «إنما » لأنها تكون المفعول الثاني ، والمفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول بالمعنى ، والإملاء لا يكون إياهم ، قال مكي في مشكله{[3731]} : ما علمت أحداً قرأ «تحسبن » بالتاء من فوق وكسر الألف من «إنما » وجوز الزجّاج هذه القراءة «تحسبن » بالتاء و «أنما » بفتح الألف ، وظاهر كلامه أنها تنصب ، قال وقد قرأ بها خلق كثير وساق عليها مثالاً قول الشاعر : [ الطويل ]
فما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ{[3732]} . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( الطويل )
بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
فكذلك يكون { إنما نملي } بدلاً من { الذين كفروا } كقوله تعالى :
{ وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره }{[3733]} وقوله { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم }{[3734]} ويكون «خيراً » المفعول الثاني قال أبو علي : لم يقرأ هذه القراءة أحد ، وقد سألت أحمد بن موسى عنها فزعم أنه لم يقرأ بها أحد ، ويظهر من كلام أبي علي أن أبا إسحاق إنما جوز المسألة مع قراءة «خير » بالرفع ، وأبو علي أعلم لمشاهدته أبا إسحاق ، وذكر قوم أن هذه القراءة تجوز على حذف مضاف تقديره : ولا تحسبن شأن الذين كفروا أنما نملي لهم ، فهذا كقوله تعالى : { واسأل القرية }{[3735]} وغير ذلك ويذهب الأستاذ أبو الحسن بن البادش{[3736]} : إلى أنها تجوز على بدل أن من الذين وحذف المفعول لحسب ، إذ الكلام يدل عليه .
قال القاضي : والمسألة جائزة إذ المعنى لا تحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم أو نحو هذا ومعنى هذه الآية : الرد على الكفار في قولهم : إن كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضى الله بحالنا واستقامة طريقتنا عنده ، فأخبر الله أن ذلك التأخير والإمهال إنما هو إملاء واستدارج ، ليكتسبوا الآثام ، وقال عبد الله بن مسعود : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا والموت خير لها ، أما البرة فلتسرع إلى رحمة الله ، وقرأ { وما عند الله خير للأبرار } [ آل عمران : 198 ] وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثماً ، وقرأ هذه الآية{[3737]} ووصف العذاب بالمهين معناه : التخسيس لهم : فقد يعذب من لا يهان ، وذلك إذا اعتقدت إقالة عثرته يوماً ما .