قوله تعالى : { لتبلون في أموالكم وأنفسكم } . الآية ، قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج نزلت الآية في أبي بكر وفنحاص بن عازوراء ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص بن عازوراء سيد بني قينقاع ليستمده ، وكتب إليه كتاباً وقال لأبي بكر رضي الله عنه لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع فجاء أبو بكر رضي الله عنه وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال : قد احتاج ربك إلى أن نمده ؟ فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تفتاتن علي بشيء حتى ترجع " " فكف . فنزلت هذه الآية . وقال الزهري : نزلت في كعب بن الأشرف فإنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسب المسلمين ، ويحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، في شعره ويسب نساء المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم من لي بابن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله . فقال محمد بن مسلمة الأنصاري : أنا لك يا رسول الله ، أنا أقتله ، قال : فافعل إن قدرت على ذلك . فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثاً لا يطعم ولا يشرب إلا ما تعلق به نفسه ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاه ، وقال له : لم تركت الطعام والشراب ؟ قال : يا رسول الله قلت قولاً ولا أدري هل أفي به أم لا ، فقال : إنما عليك الجهد . فقال : يا رسول الله إنه لابد لنا من أن نقول ، قال : قولوا ما بدا لكم وأنتم في حل من ذلك ، فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلام وأبو نائلة -وكان أخا كعب من الرضاعة- وعباد بن بشر والحارس بن أوس وأبو عيسى بن جبير ، فمشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم ، وقال : انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك في ليلة مقمرة . فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدموا أبا نائلة فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشدا الشعر ، وكان أبو نائلة يقول الشعر ثم قال : ويحك يا ابن الأشرف إني قد جئتك لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم علي ، قال : افعل ، قال : كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاءً ، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة ، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس ، فقال كعب : أنا ابن الأشرف أما والله لقد كنت أخبرتك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا ، فقال أبو نائلة : إن معي أصحاباً أردنا أن تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك وتحسن في ذلك ، قال : أترهنوني أبناءكم ؟ قال : إنا نستحي أن يعير أبناؤنا ، فيقال هذا رهينة وسق ، وهذا رهينة وسقين ، قال : ترهنوني نساءكم ؟ قالوا : كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك ، وأية امرأة تمنع منك لجمالك ، ولكنا نرهنك الحلقة ، يعني : السلاح ، وقد علمت حاجتنا إلى السلاح ، قال : نعم ، وأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا رآه فوعده أن يأتيه فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره . فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ليلاً ، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب من ملحفته ، فقالت امرأته :أسمع صوتاً يقطر منه الدم ، وإنك رجل محارب ، وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة فكلمهم من فوق الحصن ، فقال : إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة وإن هؤلاء لو وجدوني نائماً أيقظوني ، وإن الكريم إذا دعي إلى طعنة بليل أجاب ، فنزل إليهم فتحدثوا معه ساعة ثم قالوا : يا ابن الأشرف هل لك إلى أن نتماشى إلى شعب العجود نتحدث فيه بقية ليلتنا هذه ، قال : إن شئتم . فخرجوا يتماشون ، وكان أبو نائلة قال : لأصحابه إني نائل شعره فأشمه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه ، ثم إنه شام يده في فود رأسه ثم شم يده ، فقال : ما رأيت كالليلة طيب عروس قط ، قال : إنه طيب أم فلان يعني امرأته ، ثم مشى ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمأن ثم مشى ساعة فعاد لمثلها ثم أخذ بفود رأسه حتى استمكن ثم قال : اضربوا عدو لله ، فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئاً ، قال محمد بن مسلمة . فذكرت مغولاً في سيفي فأخذته ، وقد صاح عدو الله صيحةً لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار ، قال : فوضعته في ثندوته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ، ووقع عدو الله ، وقد أصيب الحارث بن أوس بجرح في رأسه أصابه بعض أسيافنا ، فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس بجرح في رأسه ونزفه الدم ، فوقفنا له ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه فجئنا به رسول الله آخر الليل وهو قائم يصلي ، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه ، وتفل على جرح صاحبنا ، فرجعنا إلى أهلنا فأصبحنا وقد خافت اليهود وقعتنا بعدو الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ظفرتم به من رجال اليهود فاقتلوه فوثب محيصة بن مسعود على سفينة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله ، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة فلما قتله ، جعل حويصة يضربه ويقول أي عدو الله قتلته أما والله لرب شحم في بطنك من ماله . قال محيصة : والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك ، قال : لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني ، قال : نعم ، قال والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب فأسلم حويصة ، فأنزل الله تعالى في شأن كعب .
قوله تعالى : { لتبلون } . لتختبرن اللام للتأكيد ، وفيه معنى القسم والنون لتأكيد القسم .
قوله تعالى : { في أموالكم } . بالجوائح والعاهات والخسران { وأنفسكم } . بالأمراض ، وقيل : بمصائب الأقارب والعشائر ، قال عطاء :هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم ورباعهم وعذبوهم ، وقال الحسن : هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق ، كالصلاة ، والصيام ، والحج ، والجهاد ، والزكاة .
قوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } . يعني اليهود والنصارى .
قوله تعالى : { ومن الذين أشركوا } . يعني مشركي العرب .
قوله تعالى : { أذى كثيراً وإن تصبروا } . على أذاهم .
قوله تعالى : { وتتقوا } . الله .
قوله تعالى : { فإن ذلك من عزم الأمور } . من حق الأمور وخيرها ، وقال عطاء : من حقيقة الإيمان .
وقوله : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } كقوله { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ]{[6304]} } [ البقرة : 155 ، 156 ] أي : لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ، ويبتلى المؤمن{[6305]} على قدر دينه ، إن{[6306]} كان في دينه صلابة زيد في البلاء { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } يقول تعالى للمؤمنين عند مَقْدمهم المدينَة قبل وقعة بدر ، مسليا لهم عما نالهم{[6307]} من الأذى من أهل الكتاب والمشركين ، وآمرًا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى يفرج الله ، فقال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني عُرْوة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } قال : وكان رسول الله{[6308]} صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به ، حتى أذن{[6309]} الله فيهم .
هكذا رواه مختصرا ، وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا فقال : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير ؛ أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمَار ، عليه قطيفة فَدكيَّة وأردف أسامة بن زيد وراءه ، يعود سَعْدَ بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، قَبْل وقعة بَدْر ، قال : حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سَلُول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين ، عَبَدَة الأوثان واليهود والمسلمين ، وفي المجلس عبدُ الله بن رَوَاحة ، فلما غَشَيت المجلسَ عَجَاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : " لا تُغَبروا علينا . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم{[6310]} ثم وقف ، فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبَي : أيها المَرْء ، إنه لا أحْسَنَ مما تقول ، إن كان حقا فلا تؤْذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه . فقال عبد الله بن رواحة : بلى{[6311]} يا رسول الله ، فَاغْشنَا به في مجالسنا فإنا نُحب ذلك . فاستَب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يَتَثَاورون{[6312]} فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دَابته ، فسار حتى دخل على سعد بن عُبَادة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا سعد ، ألم تَسْمَع إلى ما قال أبو حُبَاب{[6313]} - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا " . فقال سعد : يا رسول الله ، اعف عنه واصفح{[6314]} فوَالله الذي{[6315]} أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله{[6316]} بالحق الذي أنزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة{[6317]} على أن يُتَوِّجوه وَيُعَصِّبُوه{[6318]} بالعصابة ، فلما أبى{[6319]} الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك ، فذلك الذي فَعَل{[6320]} به ما رأيتَ ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ] {[6321]} } وقال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الآية [ البقرة : 109 ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَأوّل في العفو ما أمره الله به ، حتى أذنَ الله فيهم ، فلما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدرًا ، فقتل الله به صناديد كفار قريش ، قال عبد الله بن أبَيّ ابن سَلُول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد تَوَجّه ، فبايعُوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام{[6322]} وأسلموا{[6323]} {[6324]} .
فكان من قام بحق ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، فلا بد أن يؤذَى ، فما له دواء إلا الصبر في الله ، والاستعانة بالله ، والرجوع إلى الله ، عز وجل .
{ لَتُبْلَوُنّ فِيَ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوَاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : { لُتبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ } لتختبرن بالمصائب في أموالكم وأنفسكم ، يعني : وبهلاك الأقرباء والعشائر من أهل نصرتكم وملتكم ، { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : من اليهود وقولهم { إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنحْنُ أغْنِياءُ } وقولهم { يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ } وما أشبه ذلك من افترائهم على الله . { وَمِنَ الّذِين أشْرَكُوا } يعني النصارى ، { أذًى كَثِيرا } والأذى من اليهود ما ذكرنا ، ومن النصارى قولهم : المسيح ابن الله ، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله . { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا } يقول : وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته وتتقوا ، يقول : وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم ، فتعملوا في ذلك بطاعته . { فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } يقول : فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به . وقيل إن ذلك كله نزل في فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع . كالذي :
حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة في قوله : { لَتُبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثيرا } قال : نزلت هذه الاَية في النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي بكر رضوان الله عليه ، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع ، قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمدّه ، وكتب إليه بكتاب ، وقال لأبي بكر : «لا تَفْتَاتَنّ عليّ بِشَيْءٍ حتى تَرْجِعَ » فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف ، فأعطاه الكتاب ، فلما قرأه قال : قد احتاج ربكم أن نمده ! فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَفْتاتَنّ عَليّ بِشَيْءٍ حتى تَرْجعَ » فكف¹ ونزلت : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ } وما بين الاَيتين إلى قوله : { لَتُبْلَوْنّ فِي أمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ } نزلت هذه الاَيات في بني قينقاع ، إلى قوله : { فإنْ كَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } . قال ابن جريج : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ، قال : { لَتُبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ } قال : أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم فينظر كيف صبرهم على دينهم ، ثم قال : { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : اليهود والنصارى ، { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرا } فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم : عزير ابن الله ، ومن النصارى : المسيح ابن الله ، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب ، ويسمعون إشراكهم ، فقال الله : { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } يقول : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به .
وقال آخرون : بل نزلت في كعب بن الأشرف ، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشبب بنساء المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرا } قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار فيهم محمد بن مسلمة ، ورجل يقال له أبو عبس . فأتوه وهو في مجلس قومه بالعوالي¹ فلما رآهم ذعر منهم ، فأنكر شأنهم ، وقالوا : جئناك لحاجة ، قال : فليدن إليّ بعضكم ، فليحدثني بحاجته ! فجاءه رجل منهم فقال : جئناك لنبيعك أدراعا عندنا لنستنفق بها ، فقال : والله لئن فعلتم لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل ! فواعدوه أن يأتوه عشاء حين هدأ عنهم الناس . فأتوه ، فنادوه ، فقالت امرأته : ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب ! قال : إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم . قال معمر : فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه أشرف عليهم فكلمهم ، فقال : أترهنوني أبناءكم ؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرا ، قال : فقالوا إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال هذا رهينة وَسْق ، وهذا رهينة وسقين ! فقال : أترهنوني نسائكم ؟ قالوا : أنت أجمل الناس ، ولا نأمنك ، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك ؟ ولكنا نرهنك سلاحنا ، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم . فقال : ائتوني بسلاحكم ، واحتملوا ما شئتم ! قالوا : فانزل إلينا نأخذ عليك ، وتأخذ علينا . فذهب ينزل ، فتعلقت به امرأته وقالت : أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك . قال : لو وجدني هؤلاء نائما ما أيقظوني . قالت : فكلمهم من فوق البيت ، فأبى عليها ، فنزل إليهم يفوح ريحه ، قالوا : ما هذه الريح يا فلان ؟ قال : هذا عطر أم فلان ! امرأته . فدنا إليه بعضهم يشم رائحته ، ثم اعتنقه ، ثم قال : اقتلوا عدو الله ! فطعنه أبو عبس في خاصرته ، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف ، فقتلوه ، ثم رجعوا . فأصبحت اليهود مذعورين ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : قتل سيدنا غيلة ! فذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه ، وما كان يحض عليهم ، ويحرض في قتالهم ، ويؤذيهم ، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحا ، فقال : فكان ذلك الكتاب مع عليّ رضوان الله عليه .
هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته ، والمعنى : لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء ، وبالإنفاق في سبيل الله ، وفي سائر تكاليف الشرع ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض ، وفقد الأحبة بالموت ، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فقال عكرمة وغيره : السبب في ذلك قول فنحاص : إن الله فقير ونحن إغنياء ، وقوله : يد الله مغلولة إلى غير ذلك ، وقال الزهري وغيره : نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف ، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين ، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة{[3761]} ، و«الأذى » : اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه ، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى ، وأخبر أنه من عزم الأمور ، أي من أشدها وأحسنها ، و «العزم » : إمضاء الأمر المروي المنقح ، وليس ركوب الأمر دون روية عزماً إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب كما قال{[3762]} :
إذا هَمَّ ألقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عزْمَهُ . . . وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْحَوَادِثِ جَانِبَا
وقال النقاش : العزم والحزم بمعنى واحد : الحاء مبدلة من العين .
قال القاضي : وهذا خطأ ، والحزم : جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه ، و «العزم » : قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : { وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت }{[3763]} فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم ، والعرب تقول : قد أحزم و لو أعزم{[3764]} .