قوله تعالى : { قال } ، الله تعالى يا إبليس : { ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } ، أي : ما منعك أن تسجد و( لا ) زائدة كقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء :95 ] .
قوله تعالى : { قال } ، إبليس مجيباً له .
قوله تعالى : { أنا خير منه } لأنك .
قوله تعالى : { خلقتني من نار وخلقته من طين } ، والنار خير وأنور من الطين ، قال ابن عباس : أول من قاس إبليس فأخطأ القياس ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس . قال ابن سيرين : ما عبدت الشمس إلا بالقياس ، قال محمد بن جرير : ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل لمن جعل الله له الفضل ، وقد فضل الله الطين على النار ، وقالت الحكماء : للطين فضل على النار ، من وجوه منها : أن من جوهر الطين الرزانة والوقار ، والحلم والصبر ، وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبق له إلى التوبة والتواضع والتضرع ، فأورثه الاجتباء والتوبة والهداية ، ومن جوهر النار الخفة والطيش ، والجرأة والارتفاع ، وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار ، فأورثه اللعنة والشقاوة ، ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها ، ولأن التراب سبب الحياة ، فإن حياة الأشجار والنبات به ، والنار سبب الهلاك .
( قال : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ؟ قال : أنا خير منه ، خلقتني من نار ، وخلقته من طين )
لقد جعل إبليس له رأيا مع النص . وجعل لنفسه حقا في أن يحكم نفسه وفق ما يرى هو من سبب وعلة مع وجود الأمر . . وحين يوجد النص القاطع والأمر الجازم ينقطع النظر ، ويبطل التفكر ؛ وتتعين الطاعة ، ويتحتم التنفيذ . . وهذا إبليس - لعنه الله - لم يكن ينقصه أن يعلم أن الله هو الخالق المالك الرازق المدبر الذي لا يقع في هذا الوجود شيء إلا بإذنه وقدره . . ولكنه لم يطع الأمر كما صدر إليه ولم ينفذه . . بمنطق من عند نفسه :
قوله : { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } ابتداء المحاورة ، لأنّ ترك إبليس السّجود لآدم بمنزلة جواب عن قول الله : { أسجدوا لآدم } ، فكان بحيث يتوجّه إليه استفسار عن سبب تركه السّجود ، وضمير : { قال } عائد إلى معلوم من المقام أي قال اللَّهُ تعالى بقرينة قوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا } ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال : قُلنا ، فكان العدول إلى ضمير الغائب التفاتاً ، نكتته تحويل مقام الكلام ، إذ كان المقامُ مقام أمرٍ للملائكة ومن في زمرتهم فصار مقام توبيخ لإبليس خاصة .
و { مَا } للاستفهام ، وهو استفهام ظاهره حقيقي ، ومشوب بتوبيخ ، والمقصود من الاستفهام إظهار مقصد إبليس للملائكة .
و { منعك } معناه صدّك وكفّك عن السجود فكان مقتضى الظاهر أن يقال : ما منعك أن تسجد لأنّه إنّما كفّ عن السّجود لا عن نفي السجود فقد قال تعالى في الآية الأخرى : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] ، فلذلك كان ذكر ( لا ) هنا على خلاف مقتضى الظاهر ، فقيل هي مزيدة للتّأكيد ، ولا تفيد نفياً ، لأنّ الحرف المزيد للتّأكيد لا يفيد معنى غيرَ التّأكيد . و ( لاَ ) من جملة الحروف التي يؤكّد بها الكلام كما في قوله تعالى : { لا أقسم بهذا البلد } [ البلد : 1 ] وقوله { لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله } [ الحديد : 29 ] أي ليعلم أهل الكتاب علماً محقّقاً . وقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] أي ممنوع أنّهم يرجعون منعاً محقّقاً ، وهذا تأويل الكسائي ، والفراء ، والزّجاج ، والزّمخشري ، وفي توجيه معنى التّأكيد إلى الفعل مع كوننِ السّجود غير واقععٍ فلا ينبغي تأكيده خفاءٌ لأنّ التّوكيد تحقيق حصول الفعل المؤكّد ، فلا ينبغي التّعويل على هذا التّأويل .
وقيل ( لا ) نافية ، ووجودها يؤذن بفعل مقدر دلّ عليه { منعك } لأنّ المانع من شيء يدعو لضدّه ، فكأنّه قيل : ما منعك أن تسجد فدعاك إلى أن لا تسجد ، فإمّا أن يكون { منعك } مستعملاً في معنى دعَاك ، على سبيل المجاز ، و ( لا ) هي قرينة المجاز ، وهذا تأويل السكاكي في « المفتاح » في فصل المجاز اللّغوي ، وقريبٌ منه لعبد الجبّار فيما نقله الفخر عنه ، وهو أحسن تأويلاً ، وإمّا أن يكون قد أريد الفعلان ، فذُكر أحدهما وحذف الآخر ، وأشير إلى المحذوف بمتعلّقه الصّالح له فيكون من إيجاز الحذف ، وهو اختيار الطّبري ومن تبعه .
وانظر ما قلتُه عند قوله تعالى : { قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني } في سورة طه ( 92 ، 93 ) .
وقوله : { إذ أمرتك } ظرف ل { تسجد } ، وتعليق ضميره بالأمر يقتضي أن أمر الملائكة شامل له ، إمّا لأنّه صنف من الملائكة ، فخلق الله إبليس أصلاً للجنّ ليجعل منه صنفاً مُتَمِّيزاً عن بقيّة الملائكة بقبوله للمعصية ، وهذا هو ظاهر القرآن ، وإليه ذهب كثير من الفقهاء ، وقد قال الله تعالى : { إلا إبليس كانَ من الجنّ } [ الكهف : 50 ] الآية ، وإما لأنّ الجنّ نوع آخر من المجردات ، وإبليس أصل ذلك النّوع ، جعله الله في عداد الملائكة ، فكان أمرهم شاملاً له بناء على أن الملائكة خلقوا من النّور وأنّ الجنّ خلقوا من النّار ، وفي « صحيح مسلم » ، عن عائشة رضي الله عنها : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خلقت الملائكة من نور وخُلق الجان من مارج من نار " وإلى هذا ذهب المعتزلة وبعض الأشاعرة ، وقد يكون المراد من النّار نوراً مخلوطاً بالمادة ، ويكون المراد بالنّور نوراً مجرداً ، فيكون الجنّ نوعاً من جنس الملائكة أحطّ ، كما كان الإنسان نوعاً من جنس الحيوان أرقى .
وفُصِل : { قال أنا خير منه } لوقوعه على طريقة المحاورات .
وبَيّن مانعه من السّجود بأنّه رأى نفسه خيراً من آدم ، فلم يمتثل لأمر الله تعالى إياه بالسّجود لآدم ، وهذا معصية صريحة ، وقوله : { أنا خير منه } مسوق مساق التّعليل للامتناع ولذلك حذف منه اللام .
وجملة : { خلقتني من نار } بيان لجملة : { أنا خير منه } فلذلك فصلت ، لأنّها بمنزلة عطف البيان من المبيّن .
وحصَل لإبليس العلم بكونه مخلوقاً من نار ، بإخبار من الملائكة الذين شهدوا خلقَه ، أو بإخبار من الله تعالى .
وكونه مخلوقاً من النّار ثابت قال تعالى : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار } [ الرحمن : 14 ، 15 ] وإبليس من جنس الجنّ قال تعالى في سورة الكهف ( 50 ) : { فسجدوا إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربّه } واستند في تفضيل نفسه إلى فضيلة العنصر الذي خلق منه على العنصر الذي خلق منه آدم .
والنّار هي الحرارة البالغة لشدّتها الالتهاب الكائنة في الأجسام المصهورة بأصل الخلقة ، كالنّار التي في الشّمس ، وإذا بلغت الحرارة الالتهام عرضت النّارية للجسم من معدن أو نبات أو تراب مثل النّار الباقية في الرّماد .
والنار أفضل من التّراب لقوّة تأثيرها وتسلّطها على الأجسام التي تلاقيها ، ولأنّها تضيء ، ولأنّها زكيّة لا تلصق بها الأقذار ، والتّراب لا يشاركها في ذلك وقد اشتركا في أن كليهما تتكوّن منه الأجسام الحيّة كلّها .
وأمّا النّور الذي خُلق منه الملَكُ فهو أخلَص من الشّعاع الذي يبيّن من النّار مجرّدا عن ما في النّار من الأخلاط الجثمانيّه .
والطّينُ التّراب المختلط بالماء ، والماءُ عنصر آخر تتوقّف عليه الحياة الحيوانيّة مع النّار والتّراب ، وظاهر القرآن في آيات هذه القصة كلّها أنّ شرف النّار على التّراب مقرّر ، وأنّ إبليس أُوخذ بعصيان أمر الله عصياناً باتّاً ، والله تعالى لمّا أمر الملائكه بالسّجود لآدم قد عَلِم استحقاق آدمَ ذلك بما أوْدع الله فيه من القوّة التي قد تبلغ به إلى مبلغ الملائكة في الزّكاء والتّقديس ، فأمّا إبليس فغرّه زكاء عنصره وذلك ليس كافياً في التّفضيل وحده ، ما لم يَكن كِيَانُه من ذلك العنصر مهيّئاً إياه لبلوغ الكمالات ، لأنّ العبرة بكيفيّة التّركيب ، واعتبار خصائص المادة المركّب منها بعد التّركيب ، بحسب مقصد الخالق عند التّركيب ، ولا عبرة بحالة المادة المجرّدة ، فاللَّه تعالى ركب إبليس من عنصر النّار على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الفساد والاندفاع إليه بالطّبع دون نظر ، بحسب خصائص المادة المركّب هو منها ، وركّب آدم من عنصر التّراب على هيئة تجعله يستخدم آثار القوّة العنصريّة في الخبر والصّلاح والاندفاع إلى ازدياد الكمال بمحض الاختيار والنّظر ، بحسب ما تسمح به خصائص المادّة المركّب هو منها ، وكلّ ذلك منوط بحكمة الخالق للتّركيب ، وركّب الملائكة من عنصر النّور على هيئة تجعلهم يستخدمون قواهم العنصرية في الخيرات المحضة ، والاندفاع إلى ذلك بالطّبع دون اختيار ولا نظر ، بحسب خصايص عنصرهم ، ولذلك كان بلوغ الإنسان إلى الفضائل الملكيّة أعلى وأعجب ، وكان مبلغه إلى الرّذائل الشّيطانيّة أحطّ وأسهل ، ومن أجل ذلك خوطب بالتّكليف .
ولأجل هذا المعنى أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم أصل النّوع البشري لأنّه سجود اعتراف لله تعالى بمظهر قدرته العظيمة ، وأمر إبليس بالسّجود له كذلك ، فأمّا الملائكة فامتثلوا أمر الله ولم يعلموا حكمته ، وانتظروا البيان ، كما حكى عنهم بقوله : { قالوا سبحانك لا عِلْم لنا إلا ما علمتنا إنّك أنت العليم الحكيم } [ البقرة : 32 ] فجاءهم البيان مجملاً بقوله : { إنّي أعلَمُ ما لا تعلمون } [ البقرة : 30 ] ثمّ مفصّلا بقصّة قوله : { ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين } [ البقرة : 31 ] إلى قوله { وما كنتم تكتمون } في سورة البقرة ( 33 ) .