فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ} (12)

وجملة : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال له الله ؟ و«لا » في { أَلا تَسْجُدَ } زائدة للتوكيد بدليل قوله تعالى في سورة ص : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ } ؛ وقيل إن منع بمعنى قال ، والتقدير : من قال لك أن لا تسجد ؛ وقيل منع بمعنى دعا ، أي ما دعاك إلى أن لا تسجد . وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير : ما منعك من الطاعة وأحوجك إلى أن لا تسجد { إِذْ أَمَرْتُكَ } أي وقت أمرتك ، وقد استدل به على أن الأمر للفور ، والبحث مقرر في علم الأصول ، والاستفهام في { مَا مَنَعَكَ } للتقريع والتوبيخ ، وإلا فهو سبحانه عالم بذلك ، وجملة : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل : فما قال إبليس ؟ وإنما قال في الجواب أنا خير منه ، ولم يقل : منعني كذا ، لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة ما يدل على المانع ، وهو اعتقاده أنه أفضل منه . والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول مع ما تفيده هذه الجملة من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله . ثم علل ما ادّعاه من الخيرية بقوله : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } اعتقاداً منه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين . وقد أخطأ عدوّ الله ، فإن عنصر الطين أفضل من عنصر النار من جهة رزانته وسكونه ، وطول بقائه ، وهي حقيقة مضطربة سريعة النفاد ، ومع هذا فهو موجود في الجنة دونها ، وهي عذاب دونه ، وهي [ محتاجة ] إليه لتتحيز فيه ، وهو مسجد وطهور ، ولولا سبق شقاوته ، وصدق كلمة الله عليه ، لكان له بالملائكة المطيعين لهذا الأمر أسوة وقدوة ، فعنصرهم النوري أشرف من عنصره الناري .

/خ18