لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ} (12)

قوله تعالى : { قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } يعني : قال الله عز وجل لإبليس أي شيء منعك من السجود لآدم إذ أمرتك به فعلى هذا التأويل تكون كلمة لا في قوله أن لا تسجد صلة زائدة وإنما دخلت للتوكيد والتقدير ما منعك أن تسجد فهو كقوله : { لا أقسم } وقوله { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } أي يرجعون وقوله { لئلا يعلم أهل الكتاب } أي يعلم أهل الكتاب وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين . وقيل : إن كلمة لا هنا على أصلها مفيدة وليست بزائدة لأنه لا يجوز أن يقال إن كلمة من كتاب الله زائدة أو لا معنى لها ، وعلى هذا القول حكى الواحدي عن أحمد بن يحيى : أن لا في هذه الآية ليست زائدة ولا توكيداً لأن معنى قوله { ما منعك أن لا تسجد } من قال لك لا تسجد فحمل نظم الكلام على معناه وهذا القول حكاه أبو بكر عن الفراء . وقال الطبري والصواب في ذلك أن يقال إن في الكلام محذوفاً تقديره ما منعك من السجود فأحوجك إن لا تسجد فترك ذكر ذلك أحوجك استغناء عنه بمعرفة السامعين به ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن القاضي قال : ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة الله تعالى عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها .

فإن قلت : لم سأله عن المانع له من السجود وهو أعلم به ؟

قلت : إنما سأله للتوبيخ والتقريع له ولإظهار معاندته وكفره وافتخاره بأصله وحسده لآدم عليه الصلاة والسلام ولذلك لم يتب الله عليه { قال } يعني قال إبليس مجيباً لله تعالى عما سأله عنه { أنا خير منه } . فإن قلت قوله أنا خير منه ليس بجواب عما سأله عنه في قوله تعالى : { ما منعك أن لا تسجد } فلم يجب بما منعه من السجود فإنه كان ينبغي له أن يقول منعني كذا وكذا ولكنه قال أنا خير منه .

قلت : استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم وفيها دليل على موضع الجواب وهو قوله { خلقتني من نار وخلقته من طين } والنار خير من الطين وأنور وإنما قال أنا خير منه لما رأى أنه أشد منه قوة وأفضل منه أصلاً وذلك لفضل الجنس الذي خلق منه وهو النار على الطين الذي خلق منه آدم عليه الصلاة والسلام فجهل عدو الله وجه الحق وأخطأ طريق الصواب لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب ، وهذا الذي حمل الخبيث إبليس مع الشقاء الذي سبق له من الله تعالى في الكتاب السابق على الاستكبار على السجود لآدم عليه الصلاة والسلام والاستخفاف بأمر ربه فأورده ذلك العطب والهلاك ومن المعلوم أن في جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياة والتثبت وهذا كان الداعي لآدم عليه الصلاة والسلام مع السعادة السابقة التي سبقت له من الله تعالى في الكتاب السابق إلى التوبة من خطيئته ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة ، ولذلك كان الحسن وابن سيرين يقولان : أول من قاس إبليس فأخطأ وقال ابن سيرين أيضاً : ما عبدت الشمس والقمر لا بالمقاييس وأصل هذا القياس الذي قاسه إبليس لعنه الله تعالى لما رأى أن النار أفضل من الطين وأقوى فقال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يدر أن الفضل لمن جعله الله فاضلاً وأن الأفضلية والخيرية لا تحصل بسبب فضيلة الأصل والجوهر وأيضاً الفضيلة إنما تحصل بسبب الطاعة وقبول الأمر ، فالمؤمن الحبشي خير من الكافر القرشي فالله تعالى خص صفيه آدم عليه الصلاة والسلام بأشياء لم يخص بها غيره وهو أنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وعلّمه أسماء كل شيء وأورثه الاجتباء والتوبة والهداية إلى غير ذلك ما خص الله تعالى به آدم عليه الصلاة والسلام للعناية التي سبقت له في القدم وأورث إبليس كبره اللعنةَ والطردَ للشقاوة التي سبقت له في القدم .