الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ} (12)

فقال الله لإبليس حين امتنع من السجود لآدم { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } قال بعضهم : لا زائدة [ وإن صلة ] تقدير الكلام : ما منعك السجود لآدم ، لأن المنع يتعدّى إلى مفعولين قال الله عزّ وجلّ :

{ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 95 ] .

قال الشاعر :

ويلحينني في اللهو أن لا أحبه *** وللهو داع دائب غير غافل

أراد : أن أُحبُّة .

وقال آخر :

فما ألوم البيض أن لا تسخروا *** لما رأيتي الشمط القفندرا

وقال آخر :

أبى جوده لا البخل واستعجلت به *** نعم الفتى لا يمنع الجود قاتله

أراد : أبى جوده البخل .

سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا الهيثم الجهني يحكي عن أحمد بن يحيى ثعلب قال : كان بعضهم يكره القالا ، وتناول في المنع بمعنى القول ، لأن القول والفعل يمنعان ، وتقديره : من قال لك لا تسجد . قال بعضهم : معنى المنع الحول بين المرء وما يريد . والممنوع مضطر إلى خلاف ما منع منه فكأنّه قال : أي شيء اضطرّك إلى أن لا تسجد .

{ إِذْ أَمَرْتُكَ } قال إبليس مجيباً له { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } لأنّك { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } والنار خير وأفضل واصفى وأنور من الطين قال ابن عباس : أوّل مَنْ قاس إبليس . فأخطأ القياس فمَنْ قاس الدين بشيء من رأيه قرنه مع إبليس .

وقال ابن سيرين : أوّل مَنْ [ قاس ] إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلاّ بالمقاييس .

وقالت الحكماء : أخطأ عدو الله حين فضّل النار على الطين ، لأن الطين أفضل من النار من وجوه :

أحدها : إنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والاناة والحُلم والحياء والصبر ، وذلك هو الداعي لآدم في السعادة التي [ سبقت ] له إلى التوبة والتواضع والتضرّع وأدرته المغفرة والاجتباء والهداية والتوبة ومن جوهر النار الخفّة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب ، وذلك الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سيقت له إلى الاستكبار والاصرار فأدركه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاق .

والثاني : إنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها .

والثالث : إن الخبر ناطق بأن تراب الجنّة مسك أذفر ولم ينطق الخبر بأن في الجنة ناراً وفي النار تراباً .

والرابع : إن النار سبب العذاب وهي عذاب الله لإعدائه وليس التراب سبباً للعذاب .

والخامس : إنّ الطين [ يُسقى ] من النار والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب .