السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ} (12)

{ قال } الله تعالى لإبليس { ما منعك أن لا تسجد } أي : أن تسجد { إذ أمرتك } فلا زائدة للتأكيد كما في قوله تعالى : { لا أقسم } ( البلد ، 1 ) أي : أقسم ، وقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } ( الأنبياء ، 95 ) أي : يرجعون نعم إن حمل ( ما منعك ) على ما حملك لم تكن زائدة { قال } إبليس مجيباً له تعالى : { أنا خير منه } .

فإن قيل : كيف يكون قوله : { أنا خير منه } جواباً ل( ما منعك ) وإنما الجواب أن يقول منعني كذا ؟ أجيب : بأنه جواب من حيث المعنى استأنف به استبعاداً لأن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله كأنه قال المانع : إني خير منه ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول فكيف يحسن أن يؤمر به فهو الذي سنّ التكبر وقال : بالحسن والقبح العقليين أوّلاً وعلل الخيرية بقوله تعالى : { خلقتني من نار } فهي أغلب أجزائي وهي مشرقة مضيئة عالية غالبة { وخلقته من طين } أي : هو أغلب أجزائه وهو كدر مظلم سافل مغلوب فكل منهما مركب من العناصر الأربعة فالإضافة إلى ما ذكر باعتبار الجزء الغالب ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أوّل من قاس إبليس فأخطأ فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس ، قال ابن سيرين : ما عبدت الشمس إلا بالقياس وإنما أخطأ إبليس لأنه رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } ( ص ، 75 ) أي : بغير واسطة وباعتبار الصورة كما نبه عليه تعالى بقوله : { ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } ( الحجر ، 29 ) وباعتبار الغاية وهي ملاكه ولذلك أمر الملائكة بالسجود لما تبين لهم أنه أعلم منهم وإنّ له خواص ليست لغيره ، وقال محمد بن جرير : ظن الخبيث أنّ النار خير من الطين ولم يعلم أنّ المفضل ما جعل الله له الفضل ، وقد فضل الله الطين عن النار بوجوه منها : أنّ من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثته الاجتباء والمنزلة والهداية ، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثته اللعنة والشقاوة ولأنّ الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرّقها ولأنّ التراب سبب الحياة لأنّ حياة الأشجار والنبات لا تكون إلا مع الطين والنار سبب الهلاك .

فإن قيل : لم سأله الله تعالى عن المانع من السجود وهو عالم بما منعه ؟ أجيب : بأنه للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه أصل آدم عليه الصلاة والسلام .