البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ} (12)

{ قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } الظاهر أنّ لا زائدة تفيد التوكيد والتحقيق كهي في قوله لئلا يعلم أي لأن يعلم وكأنه قيل ليتحقّق علم أهل الكتاب وما منعك أن تحقّق السجود وتلزمه نفسك إذ أمرتك ويدلّ على زيادتها قوله تعالى { ما منعك أن تسجد } وسقوطها في هذا دليل على زيادتها في { ألا تسجد } والمعنى أنه وبّخه وقرّعه على امتناعه من السجود وإن كان تعالى عالماً بما منعه من السجود وما استفهامية تدلّ على التوبيخ كما قلنا وأنشدوا على زيادة لا قول الشاعر :

أفعنك لا برق كأنّ وميضه *** غاب يسقمه ضرام مثقب

وقول الآخر :

أبي جوده لا البخل واستعجلت به *** نعم من فتى لا يمنع الجود قائله

وأقول لا حجّة في البيت الأول إذ يحتمل أن لا تكون فيه لا زائدة لاحتمال أن تكون عاطفة وحذف المعطوف والتقدير أفعنك لا عن غيرك وأما البيت الثاني فقال الزّجاج لا مفعولة والبخل بدل منها ، وقال أبو عمرو بنُ العلاء : الرواية فيه لا البخل بخفض اللام جعلها مضافة إلى البخل لأنّ لا قد ينطق بها ولا تكون للبخل انتهى .

وقد خرّجته أنا تخريجاً آخر وهو أن ينتصب البخل على أنه مفعول من أجله ولا مفعولة ، وقال قوم : لا في أن لا تسجد ليست زائدة واختلفوا ، فقيل يقدّر محذوف يصحّ معه المعنى وهو ما منعك فأحوجك أن لا تسجد ، وقيل يحمل قوله ما منعك يصحّ معه النفي ، فقيل معنى ما منعك من أمرك ومن قال لك أن لا تسجد .

{ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } هذا ليس بجواب مطابق للسؤال لكنه يتضمن الجواب إذ معناه منعني فضلي عليه لشرف عنصري على عنصره وهذا يقتضي عنده أنّ النار خير من الطين وإذا كان كذلك فالناشىء من الأفضل لا يسجد للمفضول ، قالوا : وذلك أنّ النار جسم مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السّموات ملاصق لها ، والطين مظلم كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات ، والنار قويّة التأثير والفعل والطين ليس له إلا القبول والانفعال ، والفعل أشرف من الانفعال والنار مناسبة للحرارة الغريزيّة وهي مادة الحياة والطين ببرده ويبسه مناسب للموت وإذا تقرّر هذا فالمخلوق من الأفضل أفضل فلا يؤمر الأفضل بخدمة المفضول ألا ترى أنه لو أمر مثلاً مالك وأبو حنيفة بخدمة من هو دونهما في العلم لكان ذلك قبيحاً في العقل ثم قالوا أخطأ إبليس من حيث فضل النار على الطين وهما في درجة واحدة من حيث هما جماد مخلوق والطين أفضل من النار وجوه ، أحدها أنّ من جوهر الطين الرزانة والسكون والوقار والأناة والحلم والحياء والصبر وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له في التوبة والتواضع والتضرع فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدّة والارتفاع والاضطراب وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت إلى الاستكبار والإصرار فأورثه الهلاك واللعنة والعذاب قاله القفال ، ثم ذكروا وجوهاً عشرة يظهر بها فضل التراب على النار ثم قالوا : لا يدل من كانت مادته أفضل على أنه تكون صورته أفضل إذ الفضيلة عطية من الله تعالى ، ألا تراه يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر وأن الحبشيّ المؤمن خير من القرشيّ الكافر وإذا كانت المقدّمة غير مسلمة لم ينتج والمقدمتان أن تقول إبليس ناري المادة وكلّ ناريّ المادة أفضل من ترابي المادة فإبليس أفضل من ترابي المادة والمقدمة الثانية ممنوعة فلا تنتج .

وقال ابن عباس والحسن وابن سيرين أول من قاس إبليس ، قال ابن عباس فأخطأ فمن قاس الدين برأيه قرنه الله مع إبليس ، وقالا : وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس .

وقال بعض العلماء : أخطأ قياسه وذهب علمه أنّ الرّوح الذي نفخ في آدم ليس من طين واستدلّ نفاة القياس على إبطاله بقصّه إبليس ولا حجّة فيها لأنه قياس في مورد النص فهو فاسد فلا يدلّ على بطلان القياس حيث لا نصّ واستدلّ بقوله { إذ أمرتك } على أنّ مطلق الأمر يدلّ على الوجوب ويدلّ على الفور لذمّ إبليس على امتناعه من السجود في الحال ولو لم يدلّ على الوجوب ولا على الفور لم يستوجب الذمّ في الحال ولا مطلقاً .