غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ قَالَ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ خَلَقۡتَنِي مِن نَّارٖ وَخَلَقۡتَهُۥ مِن طِينٖ} (12)

11

أما قوله سبحانه : { ما منعك أن لا تسجد } فظاهره يقتضي أنه تعالى طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود وليس الأمر كذلك فإن المقصود طلب ما منعه من السجود كما قال في سورة ص { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] فلهذا الإشكال حصل للمفسرين رضي الله عنهم أقوال أوّلها وهو الأشهر : أن «لا صلة » زائدة كما في { لا أقسم } [ القيامة : 1 ] وكما في قوله : { لئلا يعلم أهل الكتاب } [ الحديد : 29 ] أي ليعلم وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين . قال في الكشاف : وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل في { لئلا يعلم } ليتحقق علم أهل الكتاب ، وفي { ما منعك أن لا تسجد } ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك . قلت : لعله أراد أن زيادة «لا » إشارة إلى نفي ما عدا المذكور ليلزم منه تحقق المذكور . وثانيها أن إثبات الزيادة في كلام الله تعالى خارج عن الأدب وأن الاستفهام للإنكار أي لم يمنعك من ترك السجود شيء كقول القائل لمن ضربه ظلماً : ما الذي منعك من ضربي أدينك أم عقلك أم حياؤك ؟ والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه فما امتنعت من ضربي . وثالثها قال القاضي : ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال : ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها . وقيل : الممنوع من الشيء مضطر إلى خلاف ما منع منه . وقيل : معناه ما الذي جعلك في منعة من عذابي ؟ وقيل : معناه من قال لك لا تسجد . وأقول : يمكن أن لا يعلق قوله : { أن لا تسجد } بقوله : { ما منعك } وإنما يكون متعلقه محذوفاً التقدير : ما منعك من السجود أن لا تسجد أي لئلا تسجد توجه عليك هذا السؤال . والحاصل أن عدم سجودك ما سببه ؟ { إذ أمرتك } أمر إيجاب . وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب توبيخه وإفشاء معاندته وجحوده . واستدل العلماء بالآية على أن مجرد الأمر يقتضي الوجوب وإلا لم يترتب الذم عليه ، وأن الأمر يقتضي الفور وإلا لم يستوجب الذم بترك السجود في الحال . ثم استأنف اللعين قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم زعماً منه أن مثله مستبعد أن يؤمر بما أمر به وتلك الخيرية هي التي منعته عن السجود فقال : { أنا خير منه } ثم بين هذه المقدمة بقوله { خلقتني من نار وخلقته من طين } والنار أفضل من الطين لأن النار جوهر مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها ، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن الأجرام اللطيفة كلها ، وأيضاً النار قوية التأثير والفعل ، والأرض ليس فيها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال . وأيضاً النار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة والنضج وأما الأرضية فللبرد واليبس تناسب الموت والحياة أشرف من الموت . وأيضاً فما بين التمييز والشباب لما كان وقت كمال الحرارة كانت أفضل أوقات عمر الحيوان بخلاف وقت الشيخوخة لغلبة البرد واليبس المناسب للأرضية والمخلوق من الأفضل أفضل لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع . وأما أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فما قد تقرر في العقول فهذه شبهة إبليس والمقدمات بأسرها ممنوعة ، أما أن النار أفضل من الأرض فممنوع لأن كل عنصر من العناصر الأربعة يختص بفوائد ليست لغيره ، وكل منها ضروري في الوجود وفي التركيب فلكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على البعض تطويل بلا طائل . ومن تأمل ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } [ البقرة : 22 ] وقف على بعض منافعها وعلم أن طعن اللعين مردود جداً . ولو لم يكن في النار إلا الخفة المقتضية للطيش والاستكبار والترفع وفي الأرض إلا الرزانة الموجبة للحلم والوقار والتواضع لكفى به رداً لكلامه ، وأما أن المخلوق من الأفضل أفضل فهو محل البحث والنزاع لأن الفضيلة عطية من الله تعالى ابتداء ولا يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة ، فقد يخرج الكافر من المؤمن ويحصل الدخان من النار والتكليف يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل . فالاعتبار بما انتهى إليه لا بما خلق منه وقد قال صلى الله عليه وسلم : «ائتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم » { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] وفي كلام الحكماء : العاقل من يفتخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية . فثبت أن دعوى اللعين في قوله : { أنا خير منه } باطلة . ولئن سلم فلم لا يجوز خدمة الفاضل للمفضول تواضعاً وإسقاطاً لحق النفس ؟ ولم لا يجوز الأمر بذلك لغرض الطاعة والامتثال أو لتشريف المفضول والرفع من مقداره ؟ قالت العلماء هاهنا : إن قوله تعالى للملائكة { اسجدوا لآدم } خطاب عام يتناول جميع الملائكة : ثم إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس فاستوجب الذم والتعنيف والدخول في جملة المتكبرين على الله فدل ذلك على أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس أنه كانت الطاعة بإبليس أولى من القياس فعصى ربه وقاس . وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس . ويمكن أن يجاب بأنه إنما استحق الذم لأن قياسه كان مبطلاً للنص بالكلية لا مخصصاً . وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقاً من النار بسجوده لمن كان مخلوقاً من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقاً من النور المحض بسجوده لما هو مخلوق من الأرض أولى . ويحتمل أن يزيد هذا الجواب بأن الشريف إذا رضي بتلك الخدمة فلا اعتراض عليه وحينئذٍ لا يقبح أمره بذلك . ثم إن الملائكة رضوا بذلك فلا بأس ، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق فقبح أمره بالسجود ، فقياسه يوجب تخصيص النص لا رفعه بالكلية فعلمنا أن استحقاق الذم إنما كان لتخصيص النص بالقياس كما ادعينا .

/خ25