قوله تعالى : { أو يأخذهم على تخوف } ، والتخوف : النقص ، أي : ينقص من أطرافهم ونواحيهم شيئا بعد شيء حتى يهلك جميعهم ، يقال : تخوفه الدهر وتخونه : إذا نقصه وأخذ ماله وحشمه . ويقال : هذا لغة بني هذيل . وقال الضحاك والكلبي : هو من الخوف أي : يعذب طائفة فيتخوف الآخرون أن يصيبهم مثل ما أصابهم . { فإن ربكم لرؤوف رحيم } ، حين لم يعجل بالعقوبة .
وقوله { على تخوف } أي على جهة التخوف ، والتخوف النقص ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
تخوف السير منها تامكاً فرداً . . . كما تخوف عود النبعة السفن{[7316]}
فالسفن : الِمبرد ، ويروى أن عمر بن الخطاب خفي عليه معنى «التخوف » في هذه الآية ، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك ، حتى سمع هذا البيت ، ويروى أنه جاءه فتى من العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة «التخوف » ، فقال له يا أمير المؤمنين : إن أبي يتخوفني مالي ، فقال عُمر : الله كبر { أو يأخذهم على تخوف } ، ومنه قول طرفة :
وجامل خوف من نبيه . . . زجرُ المعلى أبداً والسفيح{[7317]}
ويروى من نبته ، ومنه قول الآخر : [ الوافر ]
ألأم على الهجاء وكل يوم . . . تلاقيني من الجيران غول
تخوف غدرهم مالي وهدي . . . سلاسل في الحلوق لها صليل{[7318]}
يريد الأهاجي ، ومنه قول النابغة : [ الطويل ]
تخوفهم حتى أذل سراتهم . . . بطعن ضرار بعد قبح الصفائح{[7319]}
قال القاضي أبو محمد : وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين : أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي أفذاذاً ينقصهم بذلك الشيء بعد الشيء ، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه ، وكأن هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت ، وإلا فبهذا تهلك الأمم كلها ، ويؤيد هذا قوله { فإن ربكم لرؤوف رحيم } أي إن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد ، فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع : والآخر أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى ، ثم كذلك حتى يهلك الكل ، وقالت فرقة : «التخوف » هنا من الخوف أي يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به .
والتخوّف في اللغة يأتي مصدر تخوّف القاصر بمعنى خاف ومصدر تخوّف المتعدّي بمعنى تنقّص ، وهذا الثاني لغة هذيل ، وهي من اللغات الفصيحة التي جاء بها القرآن .
فللآية معنيان : إما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة توقّع نزول العذاب بأن يريهم مقدماته مثل الرعد قبل الصّواعق ، وإما أن يكون المعنى يأخذهم وهم في حالة تنقّص من قبل أن يتنقّصهم قبل الأخذ بأن يكثر فيهم الموتان والفقر والقحط .
وحرف { على } مستعمل في التمكّن على كلا المعنيين ، ومحل المجرور حال من ضمير النصب في { يأخذهم } وهو كقولهم : أخذه على غرّة .
روى الزمخشري وابن عطية يزيد أحدهما على الآخر : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خفي عليه معنى التخوّف في هذه الآية وأراد أن يكتب إلى الأمصار ، وأنه سأل الناس وهو على المنبر : ما تقولون فيها ؟ فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا . التخوّف : التنقّص . قال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها ؟ قال : نعم ، قال شاعرنا :
تخوّف الرحل منها تامكا قردا *** كما تخوّف عودَ النبعة السفن{[257]}
فقال عمر رضي الله عنه : « أيها الناس عليكم بديوانكم لا يضلّ ، قالوا وما ديواننا ؟ قال شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم » .
وتفرّع { فإن ربكم لرؤوف رحيم } على الجمل الماضية تفريع العلّة على المعلّل . وحرف ( إن ) هنا مفيد للتعليل ومغن عن فاء التفريع كما بيّنه عبد القاهر ، فهي مؤكدة لما أفادته الفاء . والتّعليل هنا لما فهم من مجموع المذكورات في الآية من أنه تعالى قادر على تعجيل هلاكهم وأنه أمهلهم حتى نسوا بأس الله فصاروا كالآمنين منه بحيث يستفهم عنهم : أهم آمنون من ذلك أم لا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.