صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ( 18 )
والأصم الذي لا يسمع ، والأبكم الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم فهو الأخرس ، وقيل الأبكم والأخرس واحد ، ووصفهم بهذه الصفات إذ أعمالهم من الخطأ وقلة الإجابة كأعمال من هذه صفته ، وصم رفع على خبر ابتداء فإما أن يكون ذلك على تقدير تكرار أولئك ، وإما على إضمار هم .
وقرأ عبد الله بن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله عنهما . «صماً ، بكماً ، عمياً » بالنصب ، ونصبه على الحال من الضمير في { مهتدين } ، وقيل هو نصب على الذم ، وفيه ضعف( {[299]} ) ، وأما من جعل الضمير في «نورهم » للمنافقين لا للمستوقدين فنصب هذه الصفات على قوله على الحال من الضمير في { تركهم } .
قال بعض المفسرين قوله تعالى { فهم لا يرجعون } إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه .
قال القاضي أبو محمد : وإنما كان يصح هذا إن لو كانت الآية في معينين ، وقال غيره : معناه { فهم لا يرجعون } ما داموا على الحال التي وصفهم بها ، وهذا هو الصحيح ، لأن الآية لم تعين ، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه .
قوله عز وجل( {[300]} ) :
أخبار لمبتدأ محذوف هو ضميرٌ يعود إلى ما عاد إليه ضمير { مَثَلُهم } [ البقرة : 17 ] ولا يصح أن يكون عائداً على { الذي استوقد } [ البقرة : 17 ] لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخرُه لأن قوله : { كمثل الذي استوقد ناراً } يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لمَا تأتى منه الاستيقاد ، وحذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفاً بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عُرِف للسامع فيقولون : فلان أو فتىً أو رجلٌ أو نحو ذلك على تقدير هو فلان ، ومنه قوله تعالى : { جزاءً من ربك عطاءً حساباً ربُّ السماوات والأرض وما بينهما } [ النبأ : 36 ، 37 ] التقدير هو رب السماوات عُدل عن جعل ( رب ) بدلاً من ربك ، وقول الحماسي{[88]} :
سأشكر عَمرا إن تراختْ منيتـــي *** أياديَ لم تُمْنَنْ وإنْ هيَ جَلَّــتِ
فتىً غيرُ محجوببِ الغِنى عن صديقه *** ولا مُظْهر الشكوى إذا النعل زلت
وسمى السكاكي هذا الحذف « الحذفَ الذي اتبع فيه الاستعمال الوارد على تركه » . والإخبار عنهم بهذه الأخبار جاء على طريقة التشبيه البليغ شبهوا في انعدام آثار الإحساس منهم بالصم البكم العمي أي كل واحد منهم اجتمعت له الصفات الثلاث وذلك شأن الأخبار الواردة بصيغة الجمع بعد مبتدأ هو اسم دال على جمع ، فالمعنى كل واحد منهم كالأصم الأبكم الأعمى وليس المعنى على التوزيع فلا يفهم أن بعضهم كالأصم وبعضهم كالأبكم وبعضهم كالأعمى ، وليس هو من الاستعارة عند محققي أهل البيان . قال صاحب « الكشاف » : > ا هـ أي لأن الاستعارة تعتمد على لفظ المستعار منه أو المستعار له في جملة الاستعارة فمتى ذكرا معاً فهو تشبيه ، ولا يضر ذكر لفظ المستعار له في غير جملة الاستعارة لظهور أنه لولا العلم بالمستعار له في الكلام لما ظهرت الاستعارة ولذلك اتفقوا على أن قول ابن العميد :
قامت تظللني من الشمس *** نفسٌ أعزُّ عليّ من نفسي
قامت تظللني ومن عجب *** شمسٌ تظللني من الشمس
أن قوله شمس استعارة ولم يمنعهم من ذلك ذكر المستعار له قبل في قوله نفس أعز ، وضميرها في قوله قامت تظللني وكذا إذا لفظ المستعار غير مقصود ابتناء التشبيه عليه لم يكن مانعاً من الاستعارة كقول أبي الحسن ابن طَبَاطَبَا :
لا تعجبوا من بلى غلالته *** قد زرّ أزراره على القمر
فإن الضمير لم يذكر ليبنى عليه التشبيه بل جاء التشبيه عقبه .
والصم والبكم والعمى جمع أصم وأعمى وأبكم وهم من اتصف بالصمم والبكم والعمي ، فالصمم انعدام إحساس السمع عمن من شأنه أن يكون سميعاً ، والبكم انعدام النطق عمن من شأنه النطق ، والعمي انعدام البصر عمن من شأنه الإبصار .
وقوله : { فهم لا يرجعون } تفريع على جملة : { صم بكم عمي } لأن من اعتراه هذه الصفات انعدم منه الفهم والإفهام وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب . والرجوع الانصراف من مكان حلول ثان إلى مكان حلول أول وهو هنا مجاز في الإقلاع عن الكفر .