قوله تعالى : { وقالوا } . يعني اليهود .
قوله تعالى : { قلوبنا غلف } . جمع أغلف وهو الذي عليه غشاوة ، معناه عليها غشاوة فلا تسمع ولا تفقه ما يقول ، قال مجاهد و قتادة : نظيره قوله تعالى :{ وقالوا قلوبنا في أكنة } وقرأ ابن عباس : غلف بضم اللام وهي قراءة الأعرج وهو جمع غلاف أي قلوبنا أوعية لكل علم فلا تحتاج إلى علمك قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبي : معناه أوعية لكل علم فهي لا تسمع حديثاً إلا وعته إلا حديثك لا تعقله ولا تعيه ولو كان فيه خير لوعته وفهمته .
قوله تعالى : { بل لعنهم الله } . طردهم الله وأبعدهم عن كل خير .
قوله تعالى : { بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون } . قال قتادة : معناه لا يؤمن منهم إلا قليل ، لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود ، أي فقليلاً يؤمنون ، ونصب قليلاً على الحال . وقال معمر : لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره ، أي فقليل يؤمنون ونصب قليلاً بنزع الخافض ، وما صلة على قولهما ، وقال الواقدي : معناه لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً كقول الرجل للآخر : ما أقل ما تفعل كذا أي لا تفعله أصلاً .
ذلك كان موقفهم مع أنبيائهم ، يبينه ويقرره ، ثم يجابههم بموقفهم من الرسالة الجديدة والنبي الجديد ، فإذا هم هم ، كأنهم أولئك الذين جابهوا الأنبياء من قبل :
( وقالوا : قلوبنا غلف . بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم - وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا - فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به . فلعنة الله على الكافرين . بئسما اشتروا به أنفسهم : أن يكفروا بما أنزل الله - بغيا ، أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده - فباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين . وإذا قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله ، قالوا : نؤمن بما أنزل علينا . ويكفرون بما وراءه ، وهو الحق مصدقا لما معهم ، قل : فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ؟ ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون . وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور : خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا . قالوا : سمعنا وعصينا ، وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم . قل : بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ! ) . .
إن الأسلوب هنا يعنف ويشتد ، ويتحول - في بعض المواضع - إلى صواعق وحمم . . إنه يجبههم جبها شديدا بما قالوا وما فعلوا ؛ ويجردهم من كل حججهم ومعاذيرهم ، التي يسترون بها استكبارهم عن الحق ، وأثرتهم البغيضة ، وعزلتهم النافرة ، وكراهتهم لأن ينال غيرهم الخير ، وحسدهم أن يؤتي الله أحدا من فضله . جزاء موقفهم الجحودي المنكر من الإسلام ورسوله الكريم . .
( وقالوا : قلوبنا غلف . بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ) . .
قالوا : إن قلوبنا مغلفة لا تنفذ إليها دعوة جديدة ، ولا تستمع إلى داعية جديد ! قالوها تيئيسا لمحمد [ ص ] وللمسلمين ، من دعوتهم إلى هذا الدين ؛ أو تعليلا لعدم استجابتهم لدعوة الرسول . .
ويقول الله ردا على قولتهم : ( بل لعنهم الله بكفرهم ) . . أي إنه طردهم وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم . فهم قد كفروا ابتداء فجازاهم الله على الكفر بالطرد وبالحيلولة بينهم وبين الانتفاع بالهدى . . ( فقليلا ما يؤمنون ) . . أي قليلا ما يقع منهم الإيمان بسبب هذا الطرد الذي حق عليهم جزاء كفرهم السابق ، وضلالهم القديم . أو أن هذه حالهم : أنهم كفروا فقلما يقع منهم الإيمان ، حالة لاصقة بهم يذكرها تقريرا لحقيقتهم . . وكلا المعنيين يتفق مع المناسبة والموضوع .
{ وقالوا قلوبنا غلف } مغشاة بأغطية خلقية لا يصل إليها ما جئت به ولا تفقهه ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن وقيل أصله غلف جمع غلاف فخفف ، والمعنى أنها أوعية للعلم لا تسمع علما إلا وعته ، ولا تعي ما تقول . أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره . { بل لعنهم الله بكفرهم } رد لما قالوه ، والمعنى أنها خلقت على الفطرة والتمكن من قبول الحق ، ولكن الله خذلهم بكفرهم فأبطل استعدادهم ، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لخلل فيه ، بل لأن الله تعالى خذلهم بكفرهم كما قال تعالى : { فأصمهم وأعمى أبصارهم } ، أو هم كفرة ملعونون ، فمن أين لهم دعوى العلم والاستغناء عنك ؟ { فقليلا ما يؤمنون } فإيمانا قليلا يؤمنون ، وما مزيده للمبالغة في التقليل ، وهو إيمانهم ببعض الكتاب . وقيل أراد بالقلة العدم .
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ } ( 88 )
وقرأ جمهور القراء «غلْف » بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل «حمْر » و «صفْر » ، والمعنى قلوبنا عليها غَلَف وغشاوات( {[921]} ) فهي لا تفقه( {[922]} ) ، قاله ابن عباس ، وقال قتادة : «المعنى عليها طابع » ، وقالت طائفة : غلْف بسكون اللام جمع غلاف ، أصله غلّف( {[923]} ) بتثقيل اللام فخفف .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا( {[924]} ) قلما يستعمل إلا في الشعر . وقرأ الأعمش والأعرج وابن محيصن «غلّف » بتثقيل اللام( {[925]} ) جمع غلاف ، ورويت عن أبي عمرو ، فالمعنى هي أوعية للعلم والمعارف بزعمهم ، فهي لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : { بل لعنهم الله بكفرهم } ، و { بل } في هذه الآية نقض للأول ، وإضراب عنه ، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم ، وهذا هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه( {[926]} ) ، واللعن الإبعاد والطرد ، و { قليلاً } نعت لمصدر محذوف تقديره فإيماناً قليلاً ما يؤمنون ، والضمير في { يؤمنون } لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتجه قلة هذا الإيمان : إما لأن من آمن بمحمد منهم قليل فيقل لقلة الرجال ، قال هذا المعنى قتادة ، وإما لأن وقت إيمانهم عندما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل ، إذ قد كفروا بعد ذلك ، وإما لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه ، إذ هم مجسمون فقد قللوه بجحدهم الرسل وتكذيبهم التوراة ، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك ، وعلى هذا التأويل يجيء التقدير فإيماناً قليلاً( {[927]} ) ، وعلى الذي قبله فوقتاً قليلاً ، وعلى الذي قبله فعدداً من الرجال قليلاً ، و { ما } في قوله : { فقليلاً ما يؤمنون } زائدة مؤكدة ، و { قليلاً } نصب ب { يؤمنون } .