140- إن يكن قد مسّكم بأُحُدْ قتل أو جراح عميقة في أجسامكم ، وأثَّرت في نفوسكم فلا تهنوا ولا تحزنوا ، لأنه قد أصاب خصومكم مثله يوم بدر . وإن أوقات النصر يصرفها الله بين الناس ، فيكون النصر لهؤلاء أحياناً ولأولئك أخرى ، اختباراً للمؤمنين ، وليميز الله الثابتين على الإيمان ، وليكرم قوماً بالاستشهاد في سبيله ، والله لا يحب المشركين الظالمين ولو ظفروا بنصر من غيرهم .
قوله تعالى : { إن يمسسكم قرح } . قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر قرح بضم القاف حيث جاء ، وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان معناهما واحد كالجهد والجهد ، وقال الفراء : بالفتح اسم للجراحة ، وبالضم اسم لألم الجراحة ، هذا خطاب مع المسلمين حيث انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن يقول الله تعالى لهم : ( إن يمسسكم قرح ) . يوم أحد .
قوله تعالى : { فقد مس القوم قرح مثله } . يوم بدر .
قوله تعالى : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } . فيوم لهم ويوم عليهم ، أديل المسلمون من المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين ، وأسروا سبعين ، وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمرو بن خالد أنا زهير ، أخبرنا أبو إسحاق قال :سمعت البراء بن عازب يحدث قال : جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد ، وكانوا خمسين رجلاً ، عبد الله بن جبير ، فقال : " إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم ، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم ، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم ، قال فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة ، أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين . فذلك قوله ( والرسول يدعوكم في أخراكم ) فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين . وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين ، سبعين أسيراً ، وسبعين قتيلاً ، فقال أبو سفيان : أفي القوم محمد ؟ ثلاث مرات ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاث مرات ، ثم قال : أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ، ثم رجع إلى أصحابه فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا ، فما ملك عمر نفسه فقال : كذبت والله يا عدو الله ، إن الذين عددت لأحياء كلهم ، وقد بقي لك ما يسوءك ، قال : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال ، إنكم ستجدون في القوم مثلهً لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم أخذ يرتجز :أعل هبل أعل هبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ قالوا : يا رسول ما نقول ؟ قال : قولوا الله أعلى وأجل ، قال : إن لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ قالوا : يا رسول الله ما نقول ؟ قال : قولوا الله مولانا ولا مولى لكم . وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديثه ، قال أبو سفيان : يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال ، فقال عمر رضي الله عنه لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار . قال الزجاج : الدولة تكون للمسلمين على الكفار ، لقوله تعالى ( وإن جندنا لهم الغالبون ) . وكانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وليعلم الله الذين آمنوا } . يعني إنما كانت هذه المداولة ليعلم ، أي ليرى الله الذين آمنوا فيميز المؤمن من المنافق .
( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء . والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) . .
وذكر القرح الذي أصابهم وأصاب المكذبين قرح مثله ، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر . وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون . وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد . وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر . حتى هزم المشركون وقتل منهم سبعون ، وتابعهم المسلمون يضربون أقفيتهم حتى لقد سقط علم المشركين في ثنايا المعركة فلم يتقدم إليه منهم أحد . حتى رفعته لهم امرأة فلاثوا بها وتجمعوا عليها . . ثم كانت الدولة للمشركين ، حينما خرج الرماة على أمر رسول الله [ ص ] واختلفوا فيما بينهم . فأصاب المسلمين ما أصابهم في نهاية المعركة . جزاء وفاقا لهذا الاختلاف وذلك الخروج ، وتحقيقا لسنة من سنن الله التي لا تتخلف ، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئين من الطمع في الغنيمة . والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهدون في سبيله ، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد . وتحقيقا كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض ، وهي مداولة الأيام بين الناس - وفقا لما يبدو من عمل الناس ونيتهم - فتكون لهؤلاء يوما ولأولئك يوما . ومن ثم يتبين المؤمنون ويتبين المنافقون . كما تتكشف الأخطاء . وينجلي الغبش .
( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله . وتلك الأيام نداولها بين الناس . . وليعلم الله الذين آمنوا ) . .
إن الشدة بعد الرخاء ، والرخاء بعد الشدة ، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس ، وطبائع القلوب ، ودرجة الغبش فيها والصفاء ، ودرجة الهلع فيها والصبر ، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط ، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح !
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن : مؤمنين ومنافقين ، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم ، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم . ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده ، وهم مختلطون مبهمون !
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين . والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور . ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء ، وتجعله واقعا في حياة الناس ، وتحول الإيمان إلى عمل ظاهر ، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر ، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء . فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم .
ومداولة الأيام ، وتعاقب الشدة والرخاء ، محك لا يخطىء ، وميزان لا يظلم . والرخاء في هذا كالشدة . وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك ، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل . والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء ولا تستخفها السراء ، وتتجه إلى الله في الحالين ، وتوقن أن ما أصابها من الخير والشر فبإذن الله .
وقد كان الله يربي هذه الجماعة - وهي في مطالع خطواتها لقيادة البشرية - فرباها بهذا الابتلاء بالشدة بعد الابتلاء بالرخاء ، والابتلاء بالهزيمة المريرة بعد الابتلاء بالنصر العجيب - وإن يكن هذا وهذه قد وقعا وفق أسبابهما ووفق سنن الله الجارية في النصر والهزيمة . لتتعلم هذه الجماعة أسباب النصر والهزيمة . ولتزيد طاعة لله ، وتوكلا عليه ، والتصاقا بركنه . ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين .
ويمضي السياق يكشف للأمة المسلمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث المعركة ، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس ، وفيما بعد تمييز الصفوف ، وعلم الله للمؤمنين :
وهو تعبير عجيب عن معنى عميق - إن الشهداء لمختارون . يختارهم الله من بين المجاهدين ، ويتخذهم لنفسه - سبحانه - فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد . إنما هو اختيار وانتقاء ، وتكريم واختصاص . . إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة ، ليستخلصهم لنفسه - سبحانه - ويخصهم بقربه .
ثم هم شهداء يتخذهم الله ، ويستشهدهم على هذا الحق الذي بعث به للناس . يستشهدهم فيؤدون الشهادة . يؤدونها أداء لا شبهة فيه ، ولا مطعن عليه ، ولا جدال حوله . يؤدونها بجهادهم حتى الموت في سبيل إحقاق هذا الحق ، وتقريره في دنيا الناس . يطلب الله - سبحانه - منهم أداء هذه الشهادة ، على أن ما جاءهم من عنده الحق ؛ وعلى أنهم آمنوا به ، وتجردوا له ، وأعزوه حتى أرخصوا كل شيء دونه ؛ وعلى أن حياة الناس لا تصلح ولا تستقيم إلا بهذا الحق ؛ وعلى أنهم هم استيقنوا هذا ، فلم يألوا جهدا في كفاح الباطل وطرده من حياة الناس ، وإقرار هذا الحق في عالمهم وتحقيق منهج الله في حكم الناس . . يستشهدهم الله على هذا كله فيشهدون . وتكون شهادتهم هي هذا الجهاد حتى الموت . وهي شهادة لا تقبل الجدال والمحال !
وكل من ينطق بالشهادتين : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لا يقال له أنه شهد ، إلا أن يؤدي مدلول هذه الشهادة ومقتضاها . ومدلولها هو ألا يتخذ إلا الله إلها . ومن ثم لا يتلقى الشريعة إلا منالله . فأخص خصائص الألوهية التشريع للعباد ؛ وأخص خصائص العبودية التلقي من الله . . ومدلولها كذلك ألا يتلقى من الله إلا عن محمد بما أنه رسول الله . ولا يعتمد مصدرا آخر للتلقي إلا هذا المصدر . .
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذن لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض ، كما بلغها محمد [ ص ] فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس ، والذي بلغه عنه محمد [ ص ] هو المنهج السائد والغالب والمطاع ، وهو النظام الذي يصرف حياة الناس كلها بلا استثاء .
فإذا اقتضى هذا الأمر أن يموت في سبيله ، فهو إذن شهيد . أي شاهد طلب الله إليه أداء هذه الشهادة فأداها . واتخذه الله شهيدا . . ورزقه هذا المقام .
وهو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ومقتضاه . . لا ما انتهى إليه مدلول هذه الشهادة من الرخص والتفاهة والضياع !
والظلم كثيرا ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك . بوصفه أظلم الظلم وأقبحه . وفي القرآن ( إن الشرك لظلم عظيم ) . . وفي الصحيحين عن ابن مسعود : أنه قال : قلت : يا رسول الله . أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك . . . " . .
وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين ؛ فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين . فهو توكيد في صورة أخرى لحقيقة ما ينتظر المكذبين الظالمين الذين لا يحبهم الله . والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين ، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين . وهذه الإثارة في معرض الحديث عن الجهاد والاستشهاد ، لها مناسبتها الحاضرة . فالمؤمن إنما يبذل نفسه في مكافحة ما يكرهه الله ومن يكرهه . وهذا هو مقام الاستشهاد ، وفي هذا تكون الشهادة ؛ ومن هؤلاء يتخذ الله الشهداء . .
{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } : قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم بضم القاف ، والباقون بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف . وقيل هو بالفتح الجراح وبالضم ألمها ، والمعنى إن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم يوم بدر مثله ، ثم إنهم لم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى بأن لا تضعفوا ، فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون . وقيل كلا المسينّ كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم . { وتلك الأيام نداولها بين الناس } نصرفها بينهم تدليل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقوله :
فيوما علينا ويوما لنا *** ويوم نساء ويوم نسر
والمداولة كالمعاودة يقال داولت الشيء بينهم فتداولوه ، والأيام تحتمل الوصف والخبر ، و{ نداولها } يحتمل الخبر والحال ، والمراد بها : أوقات النصر والغلبة . { وليعلم الله الذين آمنوا } : عطف على علة محذوفة أي نداولها ليكون كيت وكيت ، { وليعلم الله } إيذانا بأن العلة فيه غير واحدة ، وإن ما يصيب المؤمن فيه من المصالح ما لا يعلم ، أو الفعل المعلل به محذوف تقديره : وليتميز الثابتون على الإيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك ، والقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه بل إلى إثبات المعلوم ونفيه على طريق البرهان . وقيل معناه ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجودا . { ويتخذ منكم شهداء } : ويكرم ناسا منكم بالشهادة يريد شهداء أحد ، أو يتخذ منكم شهودا معدلين بما صودف منهم من الثبات والصبر على الشدائد . { والله لا يحب الظالمين } : الذين يضمرون خلاف ما يظهرون ، أو الكافرين وهو اعتراض ، وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يغلبهم أحيانا استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين .