فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) : القرح بالضم والفتح الجرح وهما لغتان فيه قاله الكسائي والأخفش ومعناهما واحد ، وقال الفراء :هو بالفتح الجرح وبالضم ألمه ، وقرئ قرح على المصدر . والآية خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحد مع الحزن والكآبة إن يمسسكم أيها المسلمون قرح ونالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر ، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم ، وانتم أولى بالصبر منهم .

وقيل المراد ما أصاب المسلمين والكافرين في هذا اليوم ، فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء فأصابوا منهم جماعة ثم انتصر الله عليهم فأصابوا منهم ، والأول أولى لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه ، وكذا ما أصابه المشركون في يوم أحد لم يكن مثل ما أصابه المسلمون منهم يوم بدر بل ضعفه كما قال تعالى : ( قد أصبتم مثليها ) فيمكن ان يكون المماثلة في القتلى من دون نظر إلى الأسرى ، ويكون القول الأول أرجح كما سلف .

( وتلك الأيام ) : الكائنة بين الأمم في حروبها والآتية فيما بعد كالأيام الكائنة في زمن النبوة تارة تغلب هذه الطائفة وتارة تغلب الأخرى كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر وأحد وهو معنى قوله : ( نداولها بين الناس ) فقوله تلك مبتدأ والأيام صفته والخبر نداولها أي نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة لهؤلاء أخرى كقول من قال :

فيوما علينا ويوما لنا ويوما نساء ويوما نسر

وكقول حسان الهند السيد ازاد البلجرامي رحمه الله تعالى :

ورأيت معالم دراسة رسمته مزاولة السبل

وسألت رسوم الأربع ما فعلت بك سابقة الأزل

فأجابت قال الله لنا وسؤالك من جهة الغفل

تلك الأيام نداولها لأمكث لهن على رجل

وأصل المداولة المعاورة وأدلته بينهم عاورته ، والدولة الكرة يقال تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى آخر ، ويقال الدنيا دول أي تنقل من قوم إلى آخرين ، ثم منهم إلى غيرهم ، وقيل المداولة المناوبة على الشيء والمعاودة وتعهده مرة بعد أخرى ، قاله السمين .

والمعنى : أن أيام الدنيا هي دول بين الناس فيوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء ، فكانت الدولة للمسلمين على المشركين في يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين رجلا وأسروا سبعين وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمسا وسبعين ، والقصة في البخاري بطولها عن البراء بن عازب وفي الباب أحاديث .

والمعنى ، نداولها ليظهر أمركم . قال ابن عباس أدال المشركون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين رجلا عدد الأسرى الذين أسروا يوم بدر من المشركين وكان عدد الأسرى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلا أخرجه ابن جرير وغيره .

( وليعلم الله ) : علم ظهور ( الذين آمنوا ) : أي إنما جعل الدولة للكفار على المسلمين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة وشدة ، وهو من باب التمثيل ، أي فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالما ، أو ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم علما يقع عليه الجزاء كما علمه علما أزليا ، وقيل ليعرفهم بأعيانهم ، وقيل ليعلم أولياء الله فأضاف علمهم إلى نفسه تفخيما وقيل غير ذلك .

( ويتخذ منكم شهداء ) : يعني ويكرمكم بالشهادة ، والشهداء جمع شهيد وهو من قتل من المسلمين بسيف الكفار في المعركة سمي بذلك لكونه مشهودا له بالجنة ، أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة ، ومن للتبعيض وهم شهداء أحد .

وقال ابن عباس : إن المسلمين كانوا يسألون ربهم : اللهم ربنا أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيرا ونلتمس فيه الشهادة فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ منهم شهداء .

( والله لا يحب الظالمين ) : يعني المشركين ، جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير مضمون ما قبله ، وقيل هم الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي ، قيل هم المنافقون ، والأول أولى ، ونفي المحبة كناية عن البغض ، وفي إيقاعه على الظالمين تعريض بمحبته تعالى لمقابليهم .