التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

ثم أضاف - سبحانه - إلى ذلك تسلية جديدة لهم ، فأخبرهم بأن ما أصابهم من جراح وآلام قد أصيب أعداؤهم بمثله فقال - تعالى - : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ } .

فقال الفخر الرازى : واعلم أن هذا من تمام قوله - تعالى - { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } فبين - تعالى - أن الذين يصيبهم من القرح لا يصح أن يزيل جدهم واجتهادهم فى جهاد العدو ، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك ، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك فى الحرب ، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى .

والمراد بالمس هنا : الإصابة بالجراح ونحوها .

والقرح - بفتح القاف - الجرح الذى يصيب الإنسان ، والقرح - بضم القاف - الألم الذى يترتب على ذلك وقيل هما لغتان بمعنى واحد وهو الجرح وأثره .

والمعنى : إن تكونوا - أيها المؤمنون - قد أصابتكم الجراح من المشركين فى غزوة أحد ، فأنتم قد أنزلتم بهم من الجراح فى غزوة بدر مثل ما أنزلوا بكم فى أحد ، ومع ذلك فإنهم بعد بدر قد عادوا لقتالكم ، فأنتم أولى بسبب إيمانكم ويقينكم ألا تهنوا وألا تحزنوا لما أصابكم فى أحد وأن تعقدوا العزم على منازلتهم حتى يظهر أمر الله وهم كارهون .

وقيل : إن المعنى إن تصبكم الجراح فى أحد فقد أصيب القوم بجراح مثلها فى هذه المعركة ذاتها .

وقد ذكر صاحب الكشاف هذين المعنيين فقال : والمعنى : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ، ولم ثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أولى أن لا تضعفوا . ونحوه { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } وقيل : كان ذلك يوم أحد ، فقد نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فإن قلت : كيف قيل " قرح مثله " وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين ؟ قلت : بلى كان مثله . ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار . ألا ترى إلى قوله - تعالى - { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } ويبدو لنا أن الظاهر هو الرأى الأول ، وهو أن الكلام عن غزوتى بدر وأحد ، لأن الله - تعالى - قد ساق هذه الآية الكريمة لتسلية المؤمنين بأن ما أصابهم فى أحد من المشركين قد أصيب المشركون بمثله على أيدى المؤمنين فى غزوة بدر ، فلماذا يحزنون أو يضعفون ؟ ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } ، ويؤيد هذا المعنى - كما سنبينه لعد قليل - .

وجواب الشرط فى قوله { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } . . . إلخ . والتقدير إن يمسسكم قرح فاصبروا عليه واعقدوا عزمكم على قتال أعدائكم ، فقد مسهم قرح مثله قبل ذلك .

وعبر عما أصاب المسلمين فى أحد بصيغة المضارع { يَمْسَسْكُمْ } لقربه من زمن الحال ، وعما أصاب المشركون بصيغة الماضى لبعده ؛ لأن ما أصابهم كان فى غزوة بدر .

وقوله { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } بيان لسنة الله الجارية فى كونه ، وتسلية للمؤمنين عما أصابهم فى أحد .

وقوله { نُدَاوِلُهَا } من المداولة ، وهى نقل الشىء من واحد إلى آخر .

يقال : هذا الشىء تداولته الأيدى ، أى انتقل من واحد إلى آخر .

والمعنى : لا تجزعوا أيها المؤمنون لما أصابكم من الجراح فى أحد على أيدى المشركين فهم قد أصيبوا منكم بمثل ذلك فى غزوة بدر ، وإن أيام الدنيا هى دول بين الناس ، لا يدوم سرورها ولا غمها لأحد منهم ، فمن سره زمن ساءته أزمان ، ومن أمثال العرب . الحرب سجال : والأيام دول فهى تارة لهؤلاء وتارة لأولئك ، كما قال الشاعر :

فلا وأبى الناس لا يعلمون . . . فلا الخير خير ولا الشر شر

فيوم علينا ، ويوم لنا . . . ويوم نساء ويوم نسر

واسم الإشارة { تِلْكَ } مشاربه إلى ما بعده ، كما فى الضمائر المبهمة التى يفسرها ما بعدها ، ومثل هذا التركيب يفيد التفخيم والتعظيم .

والمراد بالأيام : الأوقات والأزمان المختلفة لا الأيام العرفية التى يتكون الواحد منها من مدة معينة .

وقد فسر صاحب الكشاف مداولة الأيام بتبادل النصر ، فقال : وقوله : { وَتِلْكَ الأيام } ، تلك مبتدأ ، والأيام صفته { نُدَاوِلُهَا } خبره .

ويجوز أن يكون { وَتِلْكَ الأيام } مبتدأ وخبرا ، كما تقول : هى الأيام تبلى كل جديد .

والمراد بالأيام : أوقات الظفر والغلبة . ونداولها : نصرفها بين الناس ، نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء " .

وقد تكلم الإمام الرازى عن الحكمة فى مداولة الأيام بين الناس فقال ما ملخصه : واعمل أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله - تعالى - ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين ، وذلك لأن نصرة الله منصب شريف ، وإعزاز عظيم فلا يليق بالكافر ، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين والفائدة فيه من وجوه :

الأول : إنه - سبحانه - لو شدد المحنة على الكفار فى جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين فى جميع الأوقات . لحصل العلم الاضطرارى بأن الإيمان حق وما سواه باطل ، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب ، فلهذا المعنى تارة يسلط الله المحنة على أهل الإيمان وأخرى على أهل الكفر لتكون الشبهات باقية ، والمكلف يدفعها بواسطة النظر فى الدلائل الدالة على صحة الإسلام فيعظم ثوابه عند الله .

والثانى : أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصى ، فيكون تشديد المحنة عليه فى الدنيا أدباً ، وأما تشديد المحنة على الكافر فإنه يكون غضباً من الله عليه " .

ووجه آخر وهو شحذ عزائم المؤمنين فى اتخاذ وسائل النصر فلا يركنوا إلى إيمانهم ويتركوا العمل بالأسباب .

ثم كشفت السورة الكريمة عن جوانب من حكمة الله فيما وقع من أحداث فى غزوة أحد ، وفيما وراء مداولة الأيام بين الناس فقال - تعالى - { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } .

أى فعلنا ما فعلنا فى أحد ، واقتضت حكمتنا أن نداول الأيام بينكم وبين عدوكم ، ليظهر أمركم - أيها المؤمنون - ، وليتميز قوى الإيمانى من ضعيفه .

فمعنى علم الله هو تحقيق ما قدره فى الأزل فيعلمه الناس ، ويعلمه الله - تعالى - واقعا حاضرا ، وذلك لأن العلم الغيبيى لا يتربت عليه ثواب ولا عقاب ، وإنما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهداً واقعاً فى الحس .

قال صاحب الكشاف : وقوله { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ } فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون المعلل محذوفا والمعنى : وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف فعلنا ذلك . وهو من باب التمثيل . بمعنى : فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت ، وإلا فالله - عز وجل - لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها .

والثاني : أنه تكون العلة محذوفة ، وهذا عطف عليه والمعنى : وفعلنا ذلك ليكون كيت وليعلم الله . وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ، ليسليهم عما جرى عليهم ، وليبصرهم بأن العبد يسوؤه ما يجرى عليه من المصائب ، ولا يشعر أن لله فى ذلك من المصالح ما هو غافل عنه " .

وقوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } بيان لحكمة أخرى لما أصاب المسلمين يوم أحد .

أى : وليكرم ناسا منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم فى التضحية بالنفس من أجل إعلاء كلمة الله ، والدفاع عن الحق . وهو - سبحانه - يحب الشهداء من عباده ، ويرفعهم إلى أعلا الدرجات ، وأسمى المنازل .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } أي يكرمكم بالشهادة ، أي ليقتل قوم منكم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم . وقيل : لهذا قيل شهيد .

وقيل : سمى شهيداً لأنه مشهود له بالجنة . وقيل : سمى شهيدا ، لأن أرواحهم احتضرت دار السلام لأنهم أحياء عند ربهم ، فالشهيد بمعنى الشاهد أى الحاضر للجنة . والشهادة فضلها عظيم ويكفيك فى فضلها قوله - تعالى - { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } الآية . وفى الحديث الشريف " أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون فى قبورهم إلا الشهيد ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة " " .

وقوله - تعالى - : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } جملة معترضة لتقدير مضمون ما قبلها .

أى : والله - تعالى - لا يحب الذين ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم ونفاقهم وتخاذلهم عن نصرة الحق ، وإنما يحب المؤمنين الثابتين على الحق ، المجاهدين بأنفسهم وأموالهم فى سبيل إعلاء دين الله ، ونصره شريعته .