لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

وقوله تعالى : { إن يمسكم قرح } قرئ بضم القاف وبفتحها وهما لغتان ، ومعناهما واحد ، وقيل إنه بالفتح مصدر وبالضم اسم ، وقيل إنه بالفتح اسم للجراحة وبالضم ألم للجراحة . الآية خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحد مع الحزن والكآبة ، يقول : إن يمسسكم أيها المسلمون قرح يوم أحد ، { فقد مس القوم } : يعني في يوم بدر وقيل إن الكفار قد نالهم يوم أحد مثل ما نالكم من الجراح والقتل ، فقد قتل منهم نيف وعشرون رجلاً وكثرت الجراحات فيهم ، { وتلك الأيام نداولها بين الناس } : المداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر ، يقال تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى آخر ، ويقال الدنيا دول أي تنتقل من قوم إلى آخرين ثم منهم إلى غيرهم . والمعنى أن أيام الدنيا هي دول بين الناس ، فيوم لهؤلاء ويوم لهؤلاء ، فكانت الدولة للمسلمين على المشركين في يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين رجلاً وأسروا سبعين وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين ، ( خ ) عن البراء بن عازب قال : " جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً وهم الرماة عبد الله بن جبير . فقال : إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا من مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزمهم الله . قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن ، فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة ، أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ فقال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين ، فذلك قوله والرسول يدعوكم في أخراكم ، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً ، فأصابوا منا سبعين رجلاً ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة : سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً فقال أبو سفيان أفي القوم محمد ؟ ثلاث مرات فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ثم قال أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ ثلاث مرات ثم قال أفي القوم عمر بن الخطاب ؟ ثلاث مرات ، ثم رجع إلى أصحابه فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا ، فما ملك عمر نفسه ، فقال : كذبت والله يا عدو الله ، إن الذي عددت لأحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك ، قال يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون في القوم مثله لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم أخذ يرتجز : اعل هبل اعل هبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ألا تجيبوه ؟ فقالوا : يا رسول الله ما نقول ؟ قال قولوا الله أعلى وأجل قال أبو سفيان . إن لنا عزى ولا عزى لكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه ؟ قالوا يا رسول الله ما نقول ؟ قال : قولوا الله مولانا ولا مولى لكم " . قال البغوي وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس ، وفي حديثه قال أبو سفيان يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال ، فقال عمر : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، قال الزجاج : الدولة تكون للمسلمين على الكفار لقوله تعالى : ''وإن جندنا لهم الغالبون'' فكانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقوله تعالى : { وليعلم الله الذين آمنوا } يعني إنما جعل الدولة للكفار على المسلمين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة وشدة ، وقيل معناه : وليعلم الله الذين آمنوا بما يظهر من صبرهم على جهاد عدوهم ، أي ليعرفهم بأعيانهم إلاّ أن السبب العلم ، وهو ظهور الصبر ، حذف هنا وقيل معناه ليعلم الله ذلك واقعاً منهم لأن الله تعالى يعلم الشيء قبل وجوده ولا يحتاج إلى سبب حتى يعلم ، والمعنى ليقع ما علمه عياناً ومشاهدة للناس ، والمجازاة إنما تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد وقيل معناه ليعلم أولياء الله ، فأضاف علمهم إلى نفسه تفخيماً . وقيل معناه ليحكم الله بالامتياز بين المؤمن والمنافق فوضع العلم موضع الحكم لأن الحكم لا يحصل إلاّ بعد العلم { ويتخذ منكم شهداء } يعني وليكرم قوماً منكم بالشهادة ممن أراد أن يكرمهم بها ، وذلك لأن قوماً من المسلمين فاتهم يوم بدر وكانوا يتمنون لقاء العدو وأن يكون لهم يوم كيوم بدر فيقاتلون فيه العدو ويلتمسون فيه الشهادة ، والشهداء جمع شهيد وهو من قتل من المسلمين بسيف الكفار في المعركة ، واختلفوا في معنى الشهيد ، فقيل : الشهيد الحي ، لقوله تعالى : " بل أحياء عند ربهم يرزقون " ، فأرواحهم حية حضرت دار السلام وشهدتها وأرواح غيرهم لا تشهدها ، وقيل سمي شهيداً لأن الله تعالى شهد له بالجنة . وقيل سموا شهداء لأنهم يشهدون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين على الأمم ، لأن الشهادة تكون للأفضل فالأفضل من الأمة لأن منصب الشهادة منصب عظيم ودرجة عالية . { والله لا يحب الظالمين } : يعني المشركين ، وقيل هم الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي ، وقيل هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان بألسنتهم ويسرون الكفر ، والمعنى والله لا يحب من لا يكون ثابتاً على الإيمان صابراً على الجهاد .