غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

130

وقال راشد بن سعد : لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد كئيباً حزيناً جعلت المرأة تجيء بزوجها وأبيها وابنها مقتولين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أهكذا تفعل برسولك ؟ فنزلت { إن يمسسكم قرح } بفتح القاف وبضمها وهما لغتان كالضعف والضعف ، والجهد والجهد . وقيل بالفتح لغة تهامة والحجاز . وقيل بالفتح مصدر ، وبالضم اسم . وقال الفراء : إنه بالفتح الجراحة بعينها ، وبالضم ألم الجراحة . وقال ابن مقسم : هما لغتان إلا أن المفتوحة توهم أنها جمع قرحة . ومعنى الآية إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبل ذلك في يوم بدر . ثم لم يثبطهم ذلك عن معاودة القتال فأنتم أولى بأن لا تفرقوا ولا تجبنوا ونظيره { فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون }[ النساء :104 ] وقيل : القرحان في يوم أحد وذلك أنه قتل يومئذٍ خلق من الكفار نيف وعشرون رجلاً ، وقتل صاحب لوائهم ، وكثرت الجراحات فيهم ، وعقرت عامة خيلهم بالنبل ، وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار كما يجيء من قوله تعالى :{ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم }[ آل عمران :152 ] والمماثلة في عدد القتلى والجرحى غير لازمة وإنما تكفي المثلية في نفس القتل والجراحة { وتلك الأيام } موصوفاً وصفته مبتدأ خبره { نداولها } وتلك مبتدأ أو الأيام خبره كقولك : " هي الأيام تبلي كل جديد " فإن الضمير لا يوصف ويكون { تلك } إشارة إلى الوقائع والأحوال العجيبة التي يعرفها أهل التجارب من أبناء الزمان . والمراد بالأيام ما في تلك الأوقات من الظفر والغلبة والحالات الغريبة . وقوله { نداولها } كالتفسير لما تقدمه . والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر . ويقال : تداولته الأيدي أي تناقلته . والدنيا دول أي تنتقل من قوم إلى آخرين لا تدوم مسارّها ومغامها ، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوّه ، ويوم آخر بالعكس فلا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها ونظيره قولهم : " الحرب السجال " .

شبهت بالدلاء لكونها تارة مملوءة وأخرى فارغة . وليس المراد من هذه المداولة أنه تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين ، فإن نصرة الله منصب شريف لا يناله الكافرون . بل المراد أنه تارة يشدد المحنة على الكافرين وأخرى على المؤمنين وذلك أنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميعها لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب . فالحكمة في المداولة أن تكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام ، فيعظم ثوابه عند الله وإلى هذا يشير قوله سبحانه : { وليعلم الله الذين آمنوا } وحذف المعطوف عليه ليذهب الوهم كل مذهب ويقرر الفوائد . والتقدير نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم . وفي إيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ولكن في ضمنها مصالح جمة لو عرفوها انقلبت مساءتهم مسرة منها أن يعلم الله . وقد احتج هشام بن الحكم يظاهر هذه الآية ونحوها كقوله :{ ولما يعلم الله الذين جاهدوا }[ آل عمران :142 ] على أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند وقوعها وقد سبق الأجوبة عنها في تفسير قوله تعالى :{ وإذا ابتلى إبراهيم ربه }[ البقرة :124 ] وتأويل الآية أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور ، يقال : هذا علم فلان أو قدرته والمراد معلومه أو مقدوره . فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم فالمراد تجدد المعلوم لأن التغير في علم الله تعالى محال . فمعنى الآية ليظهر معلومنا وهو المخلص من المنافق والمؤمن من الكفار . وقيل : معناه ليحكم بالامتياز ، فوضع العلم مقام الحكم . وقيل : ليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات ، لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد . وقيل : ليعلم أولياء الله فأضاف إلى نفسه تفخيماً لهم . وعلى الأقوال العلم بمعنى العرفان ولهذا تعدى إلى مفعول واحد . وقيل : إنه بمعنى فعل القلب الذي يتعدى إلى مفعولين والتقدير : وليعلمهم مميزين عن غيرهم . ويحتمل على جميع التقادير أن يضمر متعلق وليعلم بعده ومعناه : وليتميز الثابتون على الإيمان من المضطربين فعلنا ما فعلنا . ومن حكم المداولة قوله : { ويتخذ منكم شهداء } من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة كقوله :

{ لتكونوا شهداء على الناس }[ البقرة :143 ] فإن كونهم كذلك منصب شريف لا يناله إلا هذه الأمة ، ولن يكونوا من الأمة إلا بالصبر على ما ابتلوا به من الشدائد . أو المراد ليكرم ناساً منكم بالشهادة . والشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء . والمقتول من المسلمين بسيف الكفار يسمى شهيداً . قال النضر بن شميل : لأنهم أحياء حضروا دار السلام كما ماتوا بخلاف غيرهم . وقال ابن الأنباري : لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة { والله لا يحب الظالمين } أي المشركين { إن الشرك لظلم عظيم }[ لقمان :13 ] قال ابن عباس : وقيل : لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان الصابرين على البلوى ، وهو اعتراض بين بعض المعللات وبعض . وفيه أن دولة الكافرين على المؤمنين للفوائد المذكورة لا لأنه يحبهم .

/خ141