تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

الآية 140 وقوله تعالى : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } اختلف فيه : قيل : { إن يمسسكم قرح } في آخر الأمر ، يعني أحد فقد مس المشركين قرح مثله يوم بدر يذكر هذا ، والله أعلم على التسكين ليعلموا أنهم لم يخصوا بذلك .

وقوله تعالى{[4434]} : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } تحتمل الآية وجوها : يوما للمؤمنين ويوما عليهم وذلك أن الأمر بمجاهدة العدو والقتال معهم محنة من الله عز وجل يمتحنهم ويبتليهم مرة بالظفر ( لهم والنصر على عدوهم ومرة بالظفر ) {[4435]} للعدو عليهم كقوله عز وجل : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } ( الأنبياء 35 ) وكقوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } ( الأعراف 168 } يمتحن عباده بجميع أنواع المحن بالخير مرة وبالشر ثانيا وتحتمل المداولة أيضا وجها آخر ، وهو أن الظفر والنصر لو كان أبدا للمؤمنين لكان الكفار إذا أسلموا ( أسلموا ) {[4436]} إسلام ( اختيار ولكن ) {[4437]} إنما آمنوا إيمان قهر وكره وجبر لما يخافون على أنفسهم من الهلاك إذا رأوا الدولة والظفر للمؤمنين وإن كان الظفر والنصر أبدا للكفار فلعلهم يظنون أنهم المحقون فمنعهم ذلك عن الإسلام ويحتمل أن ما يصيب المؤمنين{[4438]} إنما يصيب بمعصية سبقت منهم أو خلاف كان منهم : من ترك أمر أو ارتكاب نهي ، ( والله أعلم ) {[4439]}

فإن طعن طاعن من الملحدة في قوله عز وجل : { إن تنصروا الله ينصركم } ( محمد 7 ) وقوله عز وجل : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } ( آل عمران 60 ) أليس وعد أنكم إن نصرتم دينه ينصركم ؟ وأخبر أيضا أنه إن نصركم فلا غالب لكم ، فإذا نصرتم دينه فلم ينصركم أليس يكون كذبا في الخبر ؟ قيل لهذا جواب من أوجه : قيل : يحتمل قوله عز وجل : إن تنصروا } دين { الله } في الدنيا { ينصركم } في الآخرة بالحجج كقوله : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا } الآية ( غافر 51 ) وكقوله عز وجل : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } ( النساء : 141 ) وقيل : { إن تنصروا } دين { الله } ولم تعصوا الله فيه { ينصركم } ( محمد 7 ) { فلا غالب لكم } ( آل عمران 160 ) وقيل : يحتمل { إن تنصروا } دين { الله } جملة { ينصركم } كقوله صلى الله عليه وسلم{[4440]} " لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة كلمتهم واحدة ( عزاه زغلول إلى المسانيد : الجامع الكبير 2/264 ) وكقوله عز وجل { وآتاكم من كل ما سألتموه } ( إبراهيم 34 ) وقيل { إن تنصروا } دين { الله ينصركم } أي يجعل الظفر والنصر في العاقبة لكم . وكذلك إن كان في ابتداء الأمر الغلبة على المؤمنين فإن العاقبة لهم في الحروب كلها ، ومقدار ما كان عليهم إنما كان الأمر سبق منهم ، إما إ عجابا بالكثرة كقوله تعالى : { إذ أعجبكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا } ( التوبة 25 ) وإما خلافا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي قوله عز وجل : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } دلالة أن كان من الله معنى لديه : تكون الغلبة لهم بقوله عز وجل : { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } ( آل عمران 160 ) ( ولا كان ){[4441]} هو يجعل أبدا الدولة لأحد الفريقين ، وقد أخبر أنه يجعلها{[4442]} لهما ، ومعلوم أن كانت الدولة بالغلبة فثبت أن من الله في صنع العباد صنعا{[4443]} له ، أضيف إليه صنيعهم والله أعلم . ثم معلوم أن الغلبة لو كانت للمسلمين كان ذلك ألزم للحجة وأظهر للدعوة وأدعى إلى الإجابة ، وفيها كل صلاح فثبت أن ليس في المحنة شرط إعطاء الأصلح{[4444]} والله أعلم .

وفي قوله عز وجل : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } رد قول الأصلح حين قالوا{[4445]} : إن الله لا يفعل/70-أ/ إلا الأصلح في الدين . يقال لهم : أي صلاح للمؤمنين في مداولة الكافرين على المؤمنين ؟

وقوله تعالى { وليعلم الله الذين آمنوا } أي ليعلم ما قد علم بالغيب أنه يكون{[4446]} بالامتحان مؤمنا شاهدا وليعلم ما قد علم انه يكون كائنا . وجائز أن يراد المعلوم كقولهم{[4447]} الصلاة أمر الله أي بأمر الله .

وقوله{[4448]} عز وجل : { وليعلم الله الذين آمنوا } الآية يخرج على أوجه :

أحدهما : أن ما وصفت الله به إذا ذكرت معه الخلق ( ذكرت وقت كون الخلق ) {[4449]} لئلا يتوهم قدمه وإذا وصفت الله تعالى بلا ذكر الخلق وصفته به في الأزل نحو أن تقول : عالم قادر سميع في الأزل ، فإذا ذكرت المسموع والمقدور عليه والمعلوم ذكرت وقت كونه لتزيل توهم القدم على الآخر . وعلى هذا عندنا القول ب : خالق ورازق ونحو ذلك والله أعلم .

والثاني : على تسمية معلومة علما في مجاز اللغة ، وذلك كما سمي عذاب الله في القرآن أمره ، وسمى الناس الصلاة وغيرها من العبادات أمره على أنها تفعل بأمره وكذلك ما سميت الجنة رحمته على أن كانت به ، فيكون { وليعلم الله الذين آمنوا } أي ليكون الذين آمنوا على ما علمه يكون والله أعلم .

والثالث : { ليعلم الله الذين آمنوا } في الغيب شهودا إذ هو الغيب والشهادة{[4450]} وتحقيق ذلك لا يكون بحادث العلم ؛ وذلك نحو من يعلم الغد يكون بعلمه بعد الغد وإن لم يكن له حدوث العلم قد كان . وعلى هذا كان قبل كونه ، والله أعلم .

وقال بعض أهل التأويل : ليكون الذي علمه يكون بالمحنة ظاهرا موجودا وهو يرجع إلى ما بيننا وقال بعضهم : ليراه وهذا من صاحبه ظن أن الكلام في الرؤية لعلة اليسر ، وعن التشبيه أبعد ، وعنه : من يعزو لله حق المعرفة : هما واحد .

والأصل في هذا ونحوه في الإضافات إلى الله أنها كانت بالأحرف المتعارف ( عليها ){[4451]} في الخلق ثم هي تؤذي عن كل ( ما ) {[4452]} يضاف إليه ويشار إليه ما كان عرف من حال ذلك قبل الإضافة ( لا أن ) {[4453]} يقدر عنه الإضافة معنى لا يعرف{[4454]} به لولا ذلك على ما عرف من الاشتراك في اللفظ ، والاختلاف في المعنى فعلى ذلك أمر الإضافة إلى الله تعالى . ويوضح ذلك ما لم يفهم أحد من قوله عز وجل : { تلك حدود الله } ( البقرة 187 و . . . ) ما فهم من إضافة الحدود إلى غيره ، وكذلك بيوت الله{[4455]} وعباد الله{[4456]} وروح الله{[4457]} وكلمته{[4458]} ونحو ذلك لمثله الذي نحن فيه .

وجائز في الجملة أن يوصف الله بأنه لم يزل عالما{[4459]} بكون كل ما يكون كيف يكون ؟ وفي وقت كونه كائنا بعد كونه قد مضى كونه على تحقيق التغير في أحوال الذي يكون لا في الله سبحانه وتعالى إذ تغير الأحوال واستحالتها من آيات الحديث وأمارات الصنعة .

قال الشيخ رحمه الله في قوله عز وجل : { ولما يعلم الذين جاهدوا منكم } { آل عمران : 142 ) قيل فيه بوجهين :

أحدهما : على إثبات أنه علم ( من ) {[4460]} لم يجاهدوا كقول الناس : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أي ما شاء ألا يكون .

والثاني : أنه عالم بكل شيء فلو كان منكم جهاد لكان يعلمه وإنما لم يعلمه لأنه لم يكن . وعلى ذلك قوله عز وجل : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } ( المدثر 48 ) أي ليس لهم .

والثاني{[4461]} : قوله عز وجل : { ولما يعلم } بمعنى إلا كقوله : { لما عليها حافظ } ( الطارق 4 ) فيكون معنى الآية : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } لا تدخلوها إلا أن يعلم الله مجاهدتكم أي حتى تجاهدوا فيعلم الله ذلك منكم موجودا والله أعلم . وكذلك قوله عز وجل : { ويعلم الصابرين } ( آل عمران : 142 ) أي ليعلم ما قد علم ( أنهم صاروا صابرين ) {[4462]} وكذلك قوله عز وجل { فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } ( العنكبوت 3 ) أي ليعلمن الذين قد علم أنهم يصدقون صادقين وليعلمن الذين قد علم أنهم يكذبون كاذبين ، وكذلك قوله عز وجل { حتى نعلم المجاهدين } ( محمد 31 ) أي حتى يعلم ما قد علم أنهم يجاهدون مجاهدين .

وأصله قوله عز وجل : { عالم الغيب والشهادة } ( الأنعام 73 ) ليعلم شاهدا ما قد علم غائبا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ويتخذ منكم شهداء } أي يستشهدون في سبيل الله بأيدي عدوهم ويحتمل ( قوله ){[4463]} { ويتخذ منكم شهداء } على الناس كقوله عز وجل : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } ( البقرة 143 ) وفيه دلالة أنهم لا يستوجبون بنفس الإيمان الشهادة على الناس حتى تظهر الصيانة والعدالة في أنفسهم .


[4434]:في م: عز وجل.
[4435]:من م، ساقطة من الأصل
[4436]:ساقطة من الأصل و م.
[4437]:من م، في الأصل: اختيارهم لكن.
[4438]:في الأصل: للمؤمنين في م: بمعصية المؤمنين.
[4439]:من م في الأصل: الله أعلم.
[4440]:في م: عليه السلام.
[4441]:في الأصل و م:ولكان.
[4442]:في الأ صل و م: يجعل.
[4443]:في الأصل و م: صنع.
[4444]:هذا الشرط هو من مذهب المعتزلة وأحد ادعاءاتهم، وقد ورد كثيرا ورد عليه الماتريدي رحمه الله.
[4445]:انظر الحاشية السابقة.
[4446]:في الأ صل و م: يؤمن.
[4447]:في الأ صل و م: كقوله.
[4448]:في الأصل و م: وفي قوله
[4449]:ساقطة في الأصل و م.
[4450]:إشارة إلى قوله {علم الغيب والشهادة} (الأنعام 73و...}
[4451]:ساقطة من الأصل و م.
[4452]:ساقطة من الأصل و م.
[4453]:من م في الأصل لان
[4454]:في الأصل و م: يعرفه.
[4455]:إشارة إلى قوله {وأن المسجد لله} (الجن 18)
[4456]:إشارة إلى قوله {هم عبد الرحمن} (الزخرف 19) وقوله {وعباد الرحمن} (الفرقان 63) وقوله {عباد الله} (الصافات 40و...)
[4457]:إشارة إلى قوله {وروح منه) (النساء 171) وقوله {من روح الله} (يوسف 87)
[4458]:إشارة إلى قوله: {وكلمته} (النساء 171 و...)
[4459]:في الأصل و م: عالم.
[4460]:ساقطة من الأصل و م..
[4461]:هذا هو الوجه الثاني من وجهي تعليق الشيخ على قوله تعالى: {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} (آل عمران 142)
[4462]:في الأصل و م: يصير صابرا
[4463]:ساقطة من الأصل و م.