محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

140

( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين140 ) .

( ان يمسسكم قرح ) : بالفتح والضم قراءتان ، وهما لغتان ، كالضعف والضعف ، أي / إن أصابكم يوم أحد جراح ( فقد مس القوم قرح مثله ) : أي يوم بدر ولم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى ، لأنكم موعودون بالنصر دونهم ، أي فقد استويتم في الألم ، وتباينتم في الرجاء والثواب ، كما قال : ( ان تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) . فما بالكم تهنون وتضعفون عند القرح والألم ، فقد أصابهم ذلك في سبيل الشيطان ، وأنتم أصبتم في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته . وقيل : كلا المسَّين كان يوم أحد ، فان المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وتلك الأيام ) أي أيام هذه الحياة الدنيا ( نداولها بين الناس ) أي نصرفها بينهم ، نديل تارة لهؤلاء ، وتارة لهؤلاء . فهي عرض حاضر ، يقسمها بين أوليائه وأعدائه . بخلاف الآخرة ، فان عرضها ونصرها ورجاءها خالص للذين آمنوا .

قال ابن القيم قدس الله سره ( في ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد ) :

ومنها أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى ، لكن تكون لهم العاقبة . فانهم لو انتصروا دائما دخل معهم المسلمون وغيرهم ، ولم يميز الصادق من غيره . ولو انتصر عليهم دائما لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة . فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاؤوا به ، ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة –انتهى-

وقوله تعالى : ( وليعلم الله الذين آمنوا ) قال ابن القيم : حكمة أخرى وهي أن يتميز المؤمنون من المنافقين فيعلمهم علم رؤية ومشاهدة بعد أن كانوا معلومين في غيبه ، وذلك العلم / الغيبي لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب ، وانما يترتبان على المعلوم إذا صار مشاهدا واقعا في الحسن .

لطيفة :

في الآية وجهان :

أحدهما : أن يكون المعلل محذوفا معناه : وليعلم . . الخ فعلنا ذلك .

الثاني : أن تكون العلة محذوفة وهذا عطف عليه معناه : وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت ، وليعلم الله .

وانما حذف للإيذان بان المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم وليبصرهم أن العبد يسوؤه ما يجري عليه من المصائب ، ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه –أفاده الزمخشري-

تنبيه :

في هذه الآية بحث مشهور ، وذلك بأن ظاهرها مشعر بأنه تعالى إنما فعل ذلك ليكتسب هذا العلم ، ومعلوم أن ذلك محال على الله تعالى ، ونظيرها في الإشكال قوله تعالى : ( أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله ) . . الخ وقوله : ( ولقد فتنا الذين من قبلهم ، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) وقوله : ( لنعلم أي الحزبين أحصى ) . . الخ وقوله : ( ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) . / وقوله : ( الا لنعلم من يتبع الرسول ) .

قال الرازي : وقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآيات على أن الله تعالى لا يعلم حدوث الحوادث الا عند وقوعها فقال : كل هذه الآيات دالة على أنه تعالى انما صار عالما بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها .

ولما كانت الدلائل القطعية دالة على أزلية علمه جل اسمه ، أجاب عن ذلك العلماء بأجوبة :

منها – أن هذا من باب التمثيل . فالتقدير في هذه الآية : ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان عن غيرهم .

ومنها – أن العلم فيها مجاز عن التمييز بطريق اطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم .

ومنها – أن العلم على حقيقته . الا أنه معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث انه واقع موجود بالفعل ، أي ليعلم الثابت واقعا منهم كما كان يعلم أنه سيقع لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد ، وهذا ما اعتمده ابن القيم كما نقلناه أولا .

ومنها – أن الكلام على حذف المضاف . أي ليعلم أولياء الله ، فأضاف الى نفسه تفخيما – والله أعلم .

ثم ذكر حكمة أخرى وهي اتخاذه سبحانه منهم شهداء بقوله : ( ويتخذ منكم شهداء ) أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة ليكونوا مثالا لغيرهم في تضحية النفس شهادة للحق ، واستماتة دونه ، واعلاء لكلمته ، وهو تعالى يحب الشهداء من عباده ، وقد أعد لهم أعلى / المنازل وأفضلها ، وقد اتخذهم لنفسه ، فلا بد أن ينيلهم درجة الشهادة . وفي لفظ ( الاتخاذ ) المنبئ عن الاصطفاء والتقريب ، من تشريفهم وتفخيم شأنهم ما لا يخفى وقوله : ( والله لا يحب الظالمين ) ، قال ابن القيم : تنبيه لطيف الموقع جدا على أن كراهته وبغضه للمنافقين الذين انخزلوا عن نبيه يوم أحد فلم يشهدوه ، ولم يتخذ منهم شهداء ، لأنه لم يحبهم ، فأركسهم وردهم ليحرمهم ما خص به المؤمنون في ذلك اليوم ، وما أعطاه من استشهد منهم ، فثبط هؤلاء الظالمين عن الأسباب التي وفق لها أولياءه وحزبه –انتهى .

فالتعريض بالمنافقين . ويحتمل أن يكون بالكفرة الذين أديل لهم ، تنبيها على أن ذلك ليس بطريق النصرة لهم ، بل لما ذكر من الفوائد العائدة الى المؤمنين .