الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

قرئ «قرح » بفتح القاف وضمها ، وهما لغتان كالضعف والضعف . وقيل : هو بالفتح الجراح ، وبالضم ألمها . وقرأ أبو السَّمَّال «قرح » بفتحتين . وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد . والمعنى : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال . فأنتم أولى أن لا تضعفوا . ونحوه { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } [ النساء : 104 ] وقيل : كان ذلك يوم أحد ، فقد نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فإن قلت : كيف قيل { قَرْحٌ مّثْلُهُ } وما كان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين ؟ قلت : بلى كان مثله ، ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار . ألا ترى إلى قوله تعالى { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وتنازعتم في الأمر وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تحبون } [ آل عمران : 75 ] . { وَتِلْكَ الأيام } تلك مبتدأ ، والأيام صفته . و { نُدَاوِلُهَا } خبره ، ويجوز أن يكون { تِلْكَ الأيام } مبتدأ وخبراً ، كما تقول : هي الأيام تبلي كل جديد . والمراد بالأيام : أوقات الظفر والغلبة ، نداولها : نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، كقوله وهو من أبيات الكتاب :

فَيَوْما عَلَيْنَا وَيَوماً لَنَا *** وَيَوْما نُسَاءُ وَيَوما نُسَرّ

ومن أمثال العرب : الحرب سجال . وعن أبي سفيان أنه صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة ثم قال : أين ابن أبي كبشة ، أين ابن أبي قحافة ، أين ابن الخطاب . فقال عمر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا عمر . فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال . فقال عمر رضي الله عنه : لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار . فقال : إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا إذن وخسرنا ، والمداولة مثل المعاورة . وقال :

يَرِدُ المِيَاهَ فَلاَ يَزَالُ مُدَاوِلا *** فِي النَّاسِ بَيْنَ تَمَثلٍ وَسَمَاعِ

يقال : داولت بينهم الشيء فتداولوه { وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ } فيه وجهان : أحدهما أن يكون المعلل محذوفاً معناه : وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف ، فعلنا ذلك وهو من باب التمثيل ، بمعنى : فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت ، وإلا فالله عز وجل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها . وقيل : معناه وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات ، والثاني أن تكون العلة محذوفة ، وهذا عطف عليه ، معناه : وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم الله . وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ، ليسليهم عما جرى عليهم ، وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجري عليه من المصائب ، ولا يشعر أنّ لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } وليكرم ناساً منكم بالشهادة ، يريد المستشهدين يوم أحد .

أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلى به صبركم من الشدائد ، من قوله تعالى : { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] . { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } : اعتراض بين بعض التعليل وبعض . ومعناه : والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيل الله ، الممحصين من الذنوب .