قوله تعالى : { ومن يشاقق الرسول } ، نزلت في طعمة بن أبيرق ، وذلك أنه لما ظهرت عليه السرقة خاف على نفسه من قطع اليد والفضيحة ، فهرب إلى مكة وارتد عن الدين .
فقال تعالى : { ومن يشاقق الرسول } ، أي : يخالفه .
قوله تعالى : { من بعد ما تبين له الهدى } ، من التوحيد والحدود .
قوله تعالى : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } أي :غير طريق المؤمنين .
قوله تعالى : { نوله ما تولى } أي : نكله في الآخرة إلى ما تولى في الدنيا .
قوله تعالى : { ونصله جهنم وساءت مصيراً } . روي أن طعمة بن أبيرق نزل على رجل من بني سليم ، من أهل مكة ، يقال له الحجاج بن علاط ، فنقب بيته ، فسقط عليه حجر ، فلم يستطع أن يدخل ولا أن يخرج حتى أصبح ، فأخذ ليقتل ، فقال بعضهم : دعوة فإنه قد لجأ إليكم فتركوه فأخرجوه من مكة ، فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام ، فنزلوا منزلاً ، فسرق بعض متاعهم وهرب ، فطلبوه وأخذوه ورموه بالحجارة حتى قتلوه ، فصار قبره تلك الحجارة ، وقيل : إنه ركب سفينة إلى جدة ، فسرق فيها كيساً فيه دنانير ، فأخذ فألقي في البحر ، وقيل : إنه نزل في حرة بني سليم . وكان يعبد صنماً لهم إلى أن مات ، فأنزل الله تعالى فيه .
ومن يشاقق الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين ، نوله ما تولى ، ونصله جهنم وساءت مصيرا . إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدًا .
وقد ذكر في سبب نزول هذه المجموعة من الآيات . أن بشير بن أبيرق قد ارتد والتحق بالمشركين . ( من بعد ما تبين له الهدى ) . . فقد كان في صفوف المسلمين ، ثم اتبع غير سبيل المؤمنين . . ولكن النص عام ، ينطبق على كل حالة ، ويواجه كل حالة من مشاقة الرسول [ ص ] ومشاقته كفر وشرك وردة ، ينطبق عليه ما ينطبق على ذلك الحادث القديم .
والمشاقة - لغة - أن يأخذ المرء شقا مقابلا للشق الذي يأخذه الآخر . والذي يشاق الرسول [ ص ] هو الذي يأخذ له شقا وجانبا وصفا غير الصف والجانب والشق الذي يأخذه النبى [ ص ] ومعنى هذا أن يتخذ له منهجا للحياة كلها غير منهجه ، وأن يختار له طريقا غير طريقه . فالرسول [ ص ] جاء يحمل من عند الله منهجا كاملا للحياة يشتمل على العقيدة والشعائر التعبدية ، كما يشتمل على الشريعة والنظام الواقعي لجوانب الحياة البشرية كلها . . وهذه وتلك كلتاهما جسم هذا المنهج ، بحيث تزهق روح هذا المنهج إذا شطر جسمه فأخذ منه شق وطرح شق ! والذي يشاق الرسول [ ص ] هو كل من ينكر منهجه جملة ، أو يؤمن ببعض ويكفر ببعض ، فيأخذ بشق منه ويطرح شقا !
وقد اقتضيت رحمة الله بالناس ، ألا يحق عليهم القول ، ولا يصلوا جهنم وساءت مصيرا ، إلا بعد أن يرسل إليهم رسولا . وبعد أن يبين لهم . وبعد أن يتبينوا الهدى . ثم يختاروا الضلالة . وهي رحمة الله الواسعة الحانية على هذا المخلوق الضعيف . فإذا تبين له الهدى . أي إذا علم أن هذا المنهج من عند الله . ثم شاق الرسول [ ص ] فيه ، ولم يتبعه ويطعه ، ولم يرض بمنهج الله الذي تبين له ، فعندئذ يكتب الله عليه الضلال ، ويوليه الوجهة التي تولاها ، ويلحقه بالكفار والمشركين الذين توجه إليهم . ويحق عليه العذاب المذكور في الآية بنصه :
( ومن يشاقق الرسول - من بعد ما تبين له الهدى - ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ، ونصله جهنم . وساءت مصيرا ! ) . .
وقوله : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } أي : ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فصار في شق والشرع في شق ، وذلك عن عَمْد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له . وقوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } هذا ملازم للصفة الأولى ، ولكن قد تكون{[8324]} المخالفة لنص الشارع ، وقد تكون{[8325]} لما أجمعت{[8326]} عليه الأمة المحمدية ، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا ، فإنه قد ضُمِنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ ، تشريفًا لهم وتعظيما لنبيهم
[ صلى الله عليه وسلم ] . {[8327]} وقد وردت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة ، قد ذكرنا منها طرفًا صالحًا في كتاب " أحاديث الأصول " ، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها ، والذي عول عليه الشافعي ، رحمه الله ، في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تَحْرُم مخالفته هذه الآية الكريمة ، بعد التروي والفكر الطويل . وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها ، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك واستبعد الدلالة منها على ذلك{[8328]} .
ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله : { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } أي : إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك ، بأن نحسنها في صدره ونزينها له - استدراجًا له - كما قال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] . وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] . وقوله { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] .
وجعل النار مصيره في الآخرة ، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة ، كما قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ . مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ]{[8329]} } [ الصافات : 22 ، 23 ] . وقال : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } [ الكهف : 53 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.