( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا115 )
( ومن يشاقق الرسول ) أي يخالفه ويعاديه ( من بعد ما تبين له الهدى ) أي اتضح له الحق ( ويتبع غير سبيل المؤمنين ) أي غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل ، وهو الدين القيم ( نوله ما تولى ) أي : نجعله واليا مرجحا ما تولاه من المشاقة ومتابعة غير سبيلهم فنزينه له تزين الكفر على الكفرة ، استدراجا له ليكون دليلا على شدة العقوبة في الآخرة . كما قال تعالى : ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث * سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) {[2254]} . وقال تعالى : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ){[2255]} . وقال سبحانه : ( ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) {[2256]} ( ونصله جهنم ) أي : ندخله إياها ( وساءت مصيرا ) وجعل النار مصيره في الآخرة . لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة . كما قال تعالى : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ) {[2257]} . . . الآية . وقال تعالى : ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ) {[2258]} .
/ قال الإمام ابن كثير : قوله تعالى : ( واتبع غير سبيل المؤمنين ) هذا ملازم للصفة الأولى . ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا . فإنه قد ضمنت لهم العصمة ، في اجتماعهم ، من الخطأ ، تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم . وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك . ومن العلماء من ادعى تواتر معناها . والذي عول عليه الشافعي رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته ، هذه الآية الكريمة . بعد التروي والفكر الطويل ، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها . وان كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك . انتهى .
وقال بعض مفسري الزيدية : الآية دلت على أن مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم كبيرة . وقد تبلغ إلى الكفر . ودلت على أن الجهل عذر . لقوله : ( من بعد ما تبين له الهدى ) . ودلت على أن مخالفة الإجماع كبيرة . وأنه دليل كالكتاب والسنة . لكن إنما يكون كبيرة إذا كان نقله قطعيا ، لا آحاديا . انتهى .
وقال المهايمي : في الآية دليل على حرمة مخالفة الإجماع . لأنه عز وجل رتب الوعيد الشديد على مشاقة الرسول ومخالفة الإجماع ، فهو إما حرمة أحدهما وهو باطل . إذ يقبح أن يقال من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحد ، إذ لا دخل لأكل الخبز فيه . أو لحرمة الجمع بينهما وهو أيضا باطل . لأن مشاقة الرسول حرام وان لم يضم إليها غيرها . أو لحرمة كل واحد منهما وهو المطلوب . انتهى .
ونقل الخفاجي قصة استدلال الشافعي من هذه الآية عن الإمام المزني قال : كنت عند الشافعي يوما . فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا . فلما رآه ذا مهابة استوى جالسا ، وكان مستندا لأسطوانة ، فاستوى وسوى ثيابه . فقال له : ما الحجة في دين الله ؟ قال : كتابه قال : وماذا ؟ قال : سنة نبيه . قال وماذا ؟ قال : اتفاق الأمة . قال : من أين هذا الأخير ؟ أهو في كتاب الله ؟ فتدبر ساعة ساكتا . فقال له الشيخ : أجلتك ثلاثة أيام بلياليهن . فإن جئت بآية ، وإلا فاعتزل الناس . فمكث ثلاثة أيام لا يخرج . وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر ، وقد تغير لونه . فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس . وقال : حاجتي . فقال : نعم . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . بسم الله الرحمن الرحيم . قال الله عز وجل : ( ومن يشاقق الرسول ) –إلى آخر الآية . لم يصله جهنم ، على خلاف المؤمنين ، إلا وإتباعهم فرض . قال : صدقت . وقام وذهب .
وروي عنه انه قال : قرأت القرآن في يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات . حتى ظفرت بها .
وأورد الراغب عليه ، أنه لا حجة فيها على ما ذكره . بان كل موصوف علق به حكم فالأمر بإتباعه يكون في مأخذ ذلك الوصف . فإذا قيل اقتد بالمصلي فالمراد في صلاته . فكذا سبيل المؤمنين ، يعني به سبيلهم في الإيمان ، لا غير . فلا دلالة في الآية على إتباعهم في غيره . ورد بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول . ثم انه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف ، تناول الأمر بإتباعهم ذلك أيضا . فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه . فسبيل المؤمنين ، وان فسر بما هم عليه من الدين ، يعم الأصول والفروع ، الكل والبعض . على أن الجزاء مرتب على كل من الأمرين المذكورين في الشرط ، لا على المجموع . للقطع بان مجرد مشاقة الرسول كافية في استحقاق الوعيد ، معنى على إن ترك إتباع سبيل المؤمنين إتباع لغير سبيل المؤمنين . لأن المكلف لا يخلو من إتباع سبيل ، البتة . انتهى . ورأيت للإمام تقي الدين بن تيمية في كتابه ( الفرقان بين الحق والباطل ) مقالة بديعة في هذه الآية والإجماع . أحال فيها جواد قلمه وأجاد . وأطال وأطاب . قال رحمه الله : ما يسميه ناس الفروع والشرع والفقه ، فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان . فما بقي مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه إلا بين ذلك . وقد قال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) {[2259]} .
/ وقال تعالى : ( ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) {[2260]} . وقال تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) {[2261]} . وقال تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله * ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب ) {[2262]} . وقال تعالى : ( وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ) {[2263]} . فقد بين للمسلمين جميع ما يتقونه . كما قال : ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) {[2264]} . وقال تعالى : ( فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ){[2265]} . وهو الرد إلى كتاب الله ، / أو إلى سنة الرسول ، بعد موته . وقوله : ( فإن تنازعتم ) شرط . والفعل نكرة في سياق الشرط . فأي شيء تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول . ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلا للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه . وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : {[2266]} " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلام نحو هذا . والحاصل أن الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين . وأما إجماع الأمة فهو في نفسه حق . لا تجتمع الأمة على ضلالة . وكذلك القياس الصحيح حق . فإن الله بعث رسله بالعدل وأنزل / الميزان مع الكتاب . والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل . وقد فسروا إنزال ذلك بان ألهم العباد معرفة ذلك .
والله ورسوله يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين وهذا هو القياس الصحيح ، وقد ضرب الله في القرآن من كل مثل . وبين القياس الصحيح ، وهي الأمثال المضروبة ، ما بينه من الحق . لكن القياس الصحيح يطابق النص . فإن الميزان يطابق الكتاب . والله أمر نبيه أن يحكم بالعدل . فهو أنزل الكتاب . وإنما أنزل الكتاب بالعدل . قال تعالى : ( وأن احكم بينهم بما انزل الله ) {[2267]} . ( وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط ) {[2268]} . وأما إجماع الأمة فهو حق . لا تجتمع الأمة ، ولله الحمد ، على ضلالة . كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة . فقال تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) {[2269]} . وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر . فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ، ولم تنه عن المنكر فيه . وقال تعالى : ( وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) {[2270]} . والوسط العدل الخيار . وقد جعلهم الله شهداء على الناس / وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول . وقد ثبت في ( الصحيح ) {[2271]} " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا . فقال : وجبت . ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا . فقال : وجبت . قالوا : يا رسول الله ! ما قولك وجبت ؟ قال : هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا . فقلت : وجبت لها الجنة . وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا . فقلت : وجبت لها النار . أنتم شهداء الله في الأرض " .
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل . فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به . وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه . ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض . وقال تعالى : ( واتبع سبيل من أناب إلي ) {[2272]} . والأمة منيبة إلى ربها فيجب إتباع سبيلها وقال تعالى : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ) {[2273]} . فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة . فدل أن متابعهم عامل بما يرضي الله . والله لا يرضى إلا بالحق لا بالباطل . وقال تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) ، والشافعي ، رضي الله عنه ، لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع . كما كان يسمع هو وغيره من مالك . ذكر ذلك عن عمر بن عبد العزيز . والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين ، مستحق للوعيد . كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، مستحق للوعيد . ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده . فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره . وهنا للناس ثلاثة أقوال : قيل : إتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرده مخالفة الرسول المذكورة في الآية . وقيل بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم . فكذلك إتباع غير سبيلهم مستقل بالذم . وقيل : يكون مستلزما له . فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاق للرسول . وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين . وهذا كما في طاعة الله والرسول . فإن طاعة الله واجبة . وطاعة الرسول واجبة . وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم . وهما متلازمان . فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله . وفي الحديث الصحيح{[2274]} عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني . ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني " .
/ ثم قال تقي الدين رحمه الله ( بعد ثلاثة أوراق ) : ومن الناس من يقول : إنها لا تدل على مورد النزاع . فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين . وهذا لا نزاع فيه . أو إن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة . وهذا لا نزاع فيه . فهذا ونحوه قول من يقول : لا تدل على محل النزاع . وآخرون يقولون : بل تدل على وجوب إتباع المؤمنين مطلقا . وتكلفوا لذلك ما تكلفوه . كما قد عرف كلامهم ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية . والقول الثالث الوسط : أنها تدل على وجوب إتباع سبيل المؤمنين وتحريم إتباع غير سبيلهم . ولكن لا ينفي تلازمهما . كما ذكر في طاعة الله والرسول . وحينئذ يقول : الذم إما أن يكون حقا لمشاقة الرسول فقط ، أو بإتباع غير سبيلهم فقط ، أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما . بل بهما إذا اجتمعا . أو يلحق الذم بكل منهما وان انفرد عن الآخر ، أو بكل منهما لكونه مستلزما للآخر . والأولان باطلان . لأنه لو كان المؤثر احدهما فقط ، كان ذكر الآخر ضائعا لا فائدة فيه . وكون الذم لا يليق بواحد منهما باطل قطعا . فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه . ولحوق الذم بكل منهما وان انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية . فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع . بقي القسم الآخر وهو أن كلا من الوصفين يقتضي الوعيد . لأنه مستلزم للآخر . كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام . فيقال : من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار . ومثله قوله : ( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) . فإن الكفر بكل واحد من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره . فمن كفر بالله كفر بالجميع . ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل ، فكان كافرا بالله . إذ كذب رسله وكتبه . وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل . فكان كافرا . وكذلك قوله : ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وانتم تعلمون ) {[2275]} . ذمهم على الوصفين . وكل منهما مقتض للدم . وهما متلازمان . ولهذا نهى عنهما جميعا في قوله : ( ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وانتم تعلمون ) فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به ، لزم أن يكتم الحق الذي تبين أن هذا باطل ، إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق . فهكذا مشاقة الرسول وإتباع غير سبيل المؤمنين . من شاقه ، فقد اتبع غير سبيلهم . وهذا ظاهر . ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد ، فدل على أنه وصف مؤثر في الذم . فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا ، والآية توجب ذم ذلك . وإذا قيل : هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول . قلنا : لأنهما متلازمان . وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول . فالمخالف لهم مخالف الرسول . وهذا هو الصواب . فلا يوجد مسألة قط مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس . ويعلم الإجماع فيستدل به . كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص . وهو دليل ثان مع النص ، كالأمثال المضروبة في القرآن . وكذلك الإجماع دليل آخر . كما يقال : قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع . وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها . فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة . وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ . فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه . ولا توجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص . وقد كان بعض الناس يذكر فيها الإجماع بلا نص كالمضاربة . وليس كذلك . بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية ، لاسيما قريش . فإن الأغلب كان عليهم التجارة . وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال . ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة . والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره . فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة . ولم ينه عن ذلك . والسنة قوله وفعله وإقراره . فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة . والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في ( الموطأ ) {[2276]} ، ويعتمد عليه الفقهاء ، " لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجروا فيه وربحا . وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش . فقال له أحدهما : لو خسر المال لكان علينا . فكيف يكون الربح وعلينا الضمان ؟ فقال له بعض الصحابة : اجعله مضاربة " .
/ وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم . والعهد بالرسول قريب . لم يحدث بعده . فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول . كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والخرازة . وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص . لكن كان النص عند غيرهم . وابن جرير وطائفة يقولون : لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول . مع قولهم بصحة القياس . ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى ، كما نقل الأخبار ، ولكن استقرينا موارد الإجماع فوجدنا كلها منصوصة . وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة . كما أنه قد يحتج بقياس ، وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع . وكما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعموم . كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله تعالى : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) {[2277]} . وقال ابن مسعود{[2278]} : " سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى " . أي : بعد البقرة وقوله : ( أجلهن أن يضعن حملهن ) ، / يقتضي انحصار الأجل في ذلك . فلو أوجب عليها أن تعتد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها . وعلي وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين . وجاء النص الخاص في قصة {[2279]}سبيعة الأسلمية بما يوافق قول ابن مسعود . وكذلك . لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها هل لها مهر المثل ، أفتى ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل . ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك . وقد خالفه علي وزيد وغيرهما . فقالوا : لا مهر لها . فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ، ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه . ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على أنه لا نص فيها . بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص وأولئك يحتجون بنص . كالمتوفى عنها الحامل . هؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها . والآخرون قالوا : إنما تدخل في آية الحمل فقط ، وان آية الشهور في غير الحامل . كما أن آية القروء في غير الحامل . وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يمينا بقوله : ( لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) {[2280]} . وكذلك تنازعوا في المبتوتة هل لها نفقة أو سكنى . احتج هؤلاء بحديث فاطمة{[2281]} وبأن السكنى التي في القرآن للرجعية . وأولئك قالوا : بل هي لهما . ودلالات النصوص قد تكون خفية . فخص الله بفهمها بعض الناس . كما قال علي{[2282]} : " إلا فهما / يؤتيه الله عبدا في كتابه " . وقد يكون النص بينا ويذهل المجتهد عنه ، كتيمم الجنب . فإنه بين في القرآن في آيتين . و " لما {[2283]}احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال الحاضر : ما درى عبد الله ما يقول ، إلا أنه قال : لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد البرد أن يتيمم " . وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر : إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله : ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) {[2284]} وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة ؟ وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) {[2285]} . واحتج بهذه الآية من منع الفسخ . وآخرون يقولون : إنما أمر بالإتمام فقط . وكذلك أمر الشارع أن يتم . وكذلك في الفسخ قالوا : من فسخ العمرة إلى غير الحج فلم يتمها . أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتى بما تم مما شرع فيه فإنه شرع صلى الله عليه وسلم أصحابه عام حجة الوداع . وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله : ( أو لامستم النساء ){[2286]} . ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه . وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جلي ولا خفي ، فهذا ما أعرفه . والجد ، لما قال أكثرهم : انه أب ، استدلوا على ذلك بالقرآن بقوله{[2287]} : ( كما أخرج أبويكم من / الجنة ) وقال ابن عباس : " لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمي أبا الأب جدا لما قالت : ( وأنه تعالى جد ربنا ) {[2288]} " . نقول : إنما هو أب ، لكن أب أبعد من أب . وقد روي عن علي وزيد أنهما احتجا بقياس ، فمن ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقا فقد غلط . ومن ادعى أن من المسائل ما لم يتكلم أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط . بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم . فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها . ومن رأى دلالة الميزان ذكرها . والدلائل الصحيحة لا تتناقض . لكن قد يخفى وجه اتفاقهما أو ضعف أحدهما على بعض العلماء . وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين . كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين . فإنهم شهدوا التنزيل وعاينوا الرسول . وعرفوا من أقواله وأحوالهما ما يستدلون به على مرادهم ، ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك . فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماع أو قياس . ومن قال من المتأخرين : إن الإجماع مستند معظم الشريعة ، فقد أخبر عن حاله . فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك . وهذا كقولهم : إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها . فإنما هذا من قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه : انه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها ، فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام ، حدثت جميع أجناس الأعمال . فتكلموا فيها بالكتاب والسنة . وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة . والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه . إذ هم أهل الإجماع ، فلا إجماع قبلهم . لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح : " اقض بما في كتاب الله . فإن لم تجد ، فبما في سنة رسول الله . فإن لم تجد ، فبما قضى به الصالحون قبلك " . وفي رواية : " فبما أجمع عليه الناس " . / فقدم عمر الكتاب ثم السنة : وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال عمر . قدم الكتاب ثم السنة ، ثم الإجماع . وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب ثم بما في السنة ثم بسنة أبي بكر وعمر . لقوله{[2289]} : " اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر " . وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس . وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء . وهذا هو الصواب . ولكن طائفة من المتأخرين قالوا : يبدأ المجتهد ينظر أولا في الإجماع . فإن وجده لم يلتفت إلى غيره . وان وجد نصا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه . وقال بعضهم : الاجماع نسخه .
والصواب طريقة السلف . وذلك لأن الاجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الاجماع نص معروف به أن ذاك منسوخ . فاما أن يكون النص المحكم قد ضعيته الأمة ، وحفظت النص المنسوخ ، فهذا لا يوجد قط . وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه . واضاعة ما أمرت باتباعه . وهي معصومة عن ذلك . ومعرفة الاجماع قد تتعذر كثيرا أو غالبا . فمن الذي يحيط بأقوال المجتهدين ؟ بخلاف النصوص ، فإن معرفتها ممكنة متيسرة . وهم انما كانوا يقضون بالكتاب أولا . لان السنة لا تنسخ الكتاب . فلا يكون في القرآن شيء منسوخا بالسنة . بل ان كان فيه منسوخ ، كان في القرآن ناسخه . فلا يقدم غير القرآن عليه . ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة . ولا يكون في السنة شيء منسوخ الا والسنة نسخته . لا ينسخ السنة اجماع ولا غيره . ولا تعارض السنة باجماع . وأكثر ألفاظ الآثار . فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة . مع أنه فيها . وكذلك في القرآن . فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة . وإذا كان في السنة لم يكن ما في السنة معارضا لما في القرآن . وكذلك الاجماع الصحيح لا يعارض كتابا ولا سنة . انتهى كلامه قدس الله روحه .