البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا} (115)

{ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } نزلت في طعمة بن أبيرق لما فضحه الله بسرقته ، وبرّأ اليهودي ، ارتد وذهب إلى مكة وتقدّم ذلك موته وسببه .

ومما قيل فيه : إنه ركب في سفينة فسرق منها مالاً فعلم به ، فألقي في البحر .

وقيل : لما سرق الحجاج السلمي استحى الحجاج منه لأنه كان ضيفه فأطلقه ، فلحق بحيرة بني سليم فعبد صنماً لهم ومات على الشرك .

وقيل : نزلت في قوم طعمة قدموا فأسلموا ، ثم ارتدّوا .

وتقدم معنى المشاقة في قوله : { فإنما هم في شقاق } ومن يشاقق : عام فيندرج فيه طعمة وغيره من المشاقين من بعد ما تبين له الهدى : أي اتضح له الحق الذي هو سبب الهداية .

ولو لم يكن إلا إخبار الله نبيه عليه السلام بقصة طعمة وإطلاعه إياه على ما بيتوه وزوّروه ، لكان له في ذلك أعظم وازع وأوضح بيان ، وكان ذنب من يعرف الحق ويزيغ عنه أعظم من ذنب الجاهل ، لأنّ من لا يعرف الحق يستحق العقوبة لترك المعرفة ، لأن العمل لا يلزمه حتى يعرفه ، أو يعرفه من يصدقه .

والعالم يستحق العقوبة بترك استعمال ما يقتضيه معرفته ، فهو أعظم جرماً إذا اطلع على الحق وعمل بخلاف ما يقتضيه على سبيل العناد لله تعالى ، إذ جعل له نور يهتدي به .

وسبيل المؤمنين : هو الدين الحنيفي الذي هم عليه .

وهذه الجملة المعطوفة هي على سبيل التوكيد والتشنيع ، وإلا فمن يشاقق الرسول هو متبع غير سبيل المؤمنين ضرورة ، ولكنه بدأ بالأعظم في الإثم ، وأتبع بلازمه توكيداً .

واستدل الشافعي وغيره بهذه الآية على أن الإجماع حجة .

وقد طول أهل أصول الفقه في تقرير الدلالة منها ، وما يرد على ذلك وذلك مذكور في كتب أصول الفقه .

وقال الزمخشري : هو دليل على أنّ الإجماع حجة لا يجوز مخالفتها ، كما لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة ، لأن الله تعالى جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين وبين مشاقة الرسول في الشرط ، وجعل جزاءه الوعيد الشديد ، فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول انتهى كلامه .

وما ذكره ليس بظاهر الآية المرتب على وصفين اثنين ، لا يلزم منه أن يترتب على كل واحد منهما ، فالوعيد إنما ترتب في الآية على من اتصف بمشاقة الرسول واتباع سبيل غير المؤمنين ، ولذلك كان الفعل معطوفاً على الفعل ، ولم يعد معه اسم شرط .

فلو أعيد اسم الشرط وكان ، يكون ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين لكان فيه ظهور مّا على ما ادّعوا ، وهذا كله على تسليم أن يكون قوله : ويتبع غير سبيل المؤمنين مغايراً لقوله : ومن يشاقق الرسول .

وقد قلنا : إنه ليس بمغاير ، بل هو أمر لازم لمشاقة الرسول ، وذلك على سبيل المبالغة والتوكيد وتفظيع الأمر وتشنيعه .

والآية بعد هذا كله هي وعيد الكفار ، فلا دلالة على جزئيات فروع مسائل الفقه .

واستدل بهذه الآية على وجوب عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى أن كل مجتهد يسقط عنه الإثم .

ومعنى قوله : ما تولى قال ابن عطية : وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره .

وقال الزمخشري : يجعله بالياء ، وما تولى من الضلالة بأن تخذله وتخلى بينه وبين ما اختار انتهى .

وهذا على منزعه الاعتزالي .

وقرئ : وتصله بفتح النون من صلاه .

وقرأ ابن أبي عيلة : يوله ويصله بالياء فيهما جرياً على قوله : فسوف يؤتيه بالياء ، وفي هاء نوله ونصله : الإشباع والاختلاس والإسكان وقرئ بها .

/خ126