تقدّم في آل عمران أن المُضَارعَ المَجْزُوم ، والأمْرَ من نحو : " لم يَرْدُدْ " و " رَدَّ " يجُوزُ فيه الإدغامُ وتركُه ، على تَفْصيلٍ في ذلك وما فيه من اللُّغَات وتقدم الكلام في المَشَاقَّةِ والشِّقَاقِ في البقرة ، وكذلك حُكمُ الهَاء في قوله : " نُؤته " و " نُصْلِه " .
وهذه الآيَة [ نَزَلَتْ ]{[9720]} في طعمة بن أبَيْرِق ، وذلك أنَّه لمَّا ظهرت عليه السَّرِقَةُ ، خاف على نَفْسِهِ من قَطْع اليد والفضيحة ، فهربَ مرتَدّاً إلى مَكَّة{[9721]} .
فقال - تعالى - : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ } أي : يُخَالِفُه ، { مِن بَعد ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى } : من التَّوحيد والحُدُودِ ، { ويتَّبعْ غَيْر سَبِيلِ المُؤْمِنِين } أي : غير طَرِيق المُؤمِنِين ، { [ نولِّه ]{[9722]} مَا تَوَلَّى } أي : نَكِلُه [ فِي الآخِرَة ]{[9723]} إلى مَا تولَّى في الدُّنيا { وَنُصْلِه جَهَنَّم وَساءَت مَصِيراً } فانْتَصب مَصِيراً على التَّمْيِيز ؛ كقولهم : " فُلانٌ طَابَ نَفْساً " .
رُوِيَ أن طعمة نَزَل على رَجُل من بني سليم من أهْل مكَّة ، يُقال له : الحجَّاج بْن علاط ، فَنَقب [ بَيْتَ الحَجَّاج ، لِيَسْرِقَه ، ] فسقط عليه حَجَرٌ فلم يَسْتَطِع أن يَدْخُل ، ولا أن يَخْرُج ، فأخذ لِيُقْتَل ، فقال بَعْضُهُم : دَعُوه ، فقد لَجَأ{[9724]} إلَيْكُم ، فتركوه ، وأخْرَجُوه من مكة ، فَخَرَج مع تُجَّار من قُضاعة نَحو الشَّام ، فنزلوا مَنْزِلاً ، فَسَرقَ بَعْضَ مَتَاعِهِم وهرب ، فَطَلَبُوه ، وأخَذُوه ورموه بالحِجَارة ؛ حتَّى قتلوه ، فَصَار قبره تِلْك الحِجَارة{[9725]} ، وقيل : إنه رَكِبَ سفينةً إلى جدة ، فسرق فيها كِيساً فيه دَنَانِير فأُخِذَ ، وألْقِي في البَحْر ، وقيل : إنه نزل في حَرَّة بني سَليم ، وكان{[9726]} يَعْبُد صَنَماً لهم إلى أنْ مَاتَ ، فأنزل الله - تعالى - : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي : ذَهَب عن الطَّرِيق ، وحُرِمَ الخَيْر كُلَّه .
وقال الضَّحَّاك عن ابْن عبَّاسٍ : إنَّ هذه الآيَة نَزَلت في شَيْخٍ من الأعْراب ، جَاءَ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا نَبِيَّ الله ، إنِّي شيخٌ مُنْهَمِكٌ في الذُّنُوب ، إلاَّ أني لَمْ أشْرِكْ باللَّه شيئاً منذ عَرَفْتُه وآمنت به ، ولمْ أتَّخِذْ من دُونِه ولِيّاً ، ولَمْ أواقع المَعَاصِي جُرْأة على اللَّه ، وما توهَّمْت طَرْفَة عَيْن أنِّي أعجِزُ اللَّه هَرَباً ، وإنِّي لَنَادِمٌ تَائِبٌ ، مستغفرٌ ، فما حالي ؟ فأنزل اللَّه هذه الآية{[9727]} .
فصل في استدلال الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على حجية الإجماع
رُوِيَ{[9728]} أن الشَّافِعِي - رضي الله عنه - سُئِلَ عن آيَة في كِتَاب اللَّه - تعالى - تدلُّ على أنَّ الإجْمَاع حجَّة ، فقرأ القُرآن ثلاثمِائَة مرَّة ، حتَّى وَجَد هذه الآيَة{[9729]} ، وتقرير الاسْتِدْلال ، أن اتِّباع غَيْر سَبِيل المُؤمِنين حَرَامٌ [ فوجب أن يكُون اتِّباع سَبِيل المؤمنين وَاجِباً ]{[9730]} بيان المقدِّمة الأولى : أنه - تعالى - ألحق الوَعِيد بمن يُشَاقِقُ الرَّسُول ، ويتَّبع غير سَبِيل المُؤمنين ، ولو لم يَكُن ذلك مُوجِباً ، لكان ذلك ضمّاً لما لا أثَر لَهُ في الوَعِيد إلى مَا هُو مُسْتَقِلٌّ باقْتِضَاء ذَلِك الوَعِيد ، وإنَّه غير جَائز ، وإذا كان اتِّبَاعُ غير سَبيل المُؤمنين حَرَاماً ، لزم أن يَكُون اتِّباع سَبيلِ المؤمنين وَاجباً ، وإذا كان عَدَم اتِّبَاعهم حَرَاماً ، كان اتِّباعُهُم وَاجباً ، لأنَّه لا خُرُوجَ عن طَرفَي النَّقِيضِ .
فإن قيل : لا نُسَلِّم{[9731]} أنَّ عدم اتِّبَاعِ سَبيل المؤمنين ، يصدق عَليْه أنَّه اتِّباعٌ لغير سَبِيل المُؤمِنين ، فإنه [ لا يَمتنِع ألاَّ ]{[9732]} يتَّبع لا سبيل [ المؤمنين ]{[9733]} ولا غير سَبِيل المُؤمنين .
الجوابُ : أنَّ المتابعة عِبَارةٌ عن الإتْيَان بِمثْل ما فعل الغَيْر ، وإذا كَانَ من شَأن غير المُؤمنين ألاَّ يَتَّبِعُوا سبيل المؤمنين ، فكُلُّ من لَمْ يَتَّبع سَبِيل المؤمنين ، فقد أتَى بِمِثْل ما فعل غَيْر المُؤمنين ؛ فوجب كَوْنُه مُتَّبِعاً لهم .
ولقائل أن يَقُول : الاتِّبَاع ليس عِبَارة عن الإتْيَان بِمِثْل فِعْل الغَيْر ، وإلا لزم أن يُقَال : الأنْبِيَاءُ{[9734]} والملائِكةُ يتبعون لآحَاد الخَلْق من حَيْثُ إنَّهُم يوحِّدُون اللَّه [ - تعالى - ]{[9735]} لما أن كُلَّ واحد من آحَاد الأمَّة يوحِّد اللَّه - تعالى - ، ومعلوم أنَّ ذلك لا يُقَال ، بل الاتِّباع عِبَارة عن الإتْيَان بمثل فِعْل الغَيْر ، لأجْل أنه فِعْل ذلك الغَيْر ، ومن كان كذلك فمن{[9736]} تركَ مُتابعَة سبيل المؤمنين ؛ لأجل أنَّه ما وَجَد على وُجُوب مُتَابَعَتِهم دَلِيلاً ، فلا جَرَم لم يَتَّبِعْهُم ، فهذا شَخْصٌ لا يكون مُتَّبِعاً لغير سَبِيل المُؤمنين .
وقال ابن الخَطِيب{[9737]} : وهذا سُؤال قَوِيٌّ على هذا الدَّلِيل ، وفيه أبْحَاث أخَر دَقِيقَةٌ ذكرناها في كِتَاب المَحْصُول .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.