اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا} (115)

تقدّم في آل عمران أن المُضَارعَ المَجْزُوم ، والأمْرَ من نحو : " لم يَرْدُدْ " و " رَدَّ " يجُوزُ فيه الإدغامُ وتركُه ، على تَفْصيلٍ في ذلك وما فيه من اللُّغَات وتقدم الكلام في المَشَاقَّةِ والشِّقَاقِ في البقرة ، وكذلك حُكمُ الهَاء في قوله : " نُؤته " و " نُصْلِه " .

وهذه الآيَة [ نَزَلَتْ ]{[9720]} في طعمة بن أبَيْرِق ، وذلك أنَّه لمَّا ظهرت عليه السَّرِقَةُ ، خاف على نَفْسِهِ من قَطْع اليد والفضيحة ، فهربَ مرتَدّاً إلى مَكَّة{[9721]} .

فقال - تعالى - : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ } أي : يُخَالِفُه ، { مِن بَعد ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى } : من التَّوحيد والحُدُودِ ، { ويتَّبعْ غَيْر سَبِيلِ المُؤْمِنِين } أي : غير طَرِيق المُؤمِنِين ، { [ نولِّه ]{[9722]} مَا تَوَلَّى } أي : نَكِلُه [ فِي الآخِرَة ]{[9723]} إلى مَا تولَّى في الدُّنيا { وَنُصْلِه جَهَنَّم وَساءَت مَصِيراً } فانْتَصب مَصِيراً على التَّمْيِيز ؛ كقولهم : " فُلانٌ طَابَ نَفْساً " .

رُوِيَ أن طعمة نَزَل على رَجُل من بني سليم من أهْل مكَّة ، يُقال له : الحجَّاج بْن علاط ، فَنَقب [ بَيْتَ الحَجَّاج ، لِيَسْرِقَه ، ] فسقط عليه حَجَرٌ فلم يَسْتَطِع أن يَدْخُل ، ولا أن يَخْرُج ، فأخذ لِيُقْتَل ، فقال بَعْضُهُم : دَعُوه ، فقد لَجَأ{[9724]} إلَيْكُم ، فتركوه ، وأخْرَجُوه من مكة ، فَخَرَج مع تُجَّار من قُضاعة نَحو الشَّام ، فنزلوا مَنْزِلاً ، فَسَرقَ بَعْضَ مَتَاعِهِم وهرب ، فَطَلَبُوه ، وأخَذُوه ورموه بالحِجَارة ؛ حتَّى قتلوه ، فَصَار قبره تِلْك الحِجَارة{[9725]} ، وقيل : إنه رَكِبَ سفينةً إلى جدة ، فسرق فيها كِيساً فيه دَنَانِير فأُخِذَ ، وألْقِي في البَحْر ، وقيل : إنه نزل في حَرَّة بني سَليم ، وكان{[9726]} يَعْبُد صَنَماً لهم إلى أنْ مَاتَ ، فأنزل الله - تعالى - : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي : ذَهَب عن الطَّرِيق ، وحُرِمَ الخَيْر كُلَّه .

وقال الضَّحَّاك عن ابْن عبَّاسٍ : إنَّ هذه الآيَة نَزَلت في شَيْخٍ من الأعْراب ، جَاءَ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا نَبِيَّ الله ، إنِّي شيخٌ مُنْهَمِكٌ في الذُّنُوب ، إلاَّ أني لَمْ أشْرِكْ باللَّه شيئاً منذ عَرَفْتُه وآمنت به ، ولمْ أتَّخِذْ من دُونِه ولِيّاً ، ولَمْ أواقع المَعَاصِي جُرْأة على اللَّه ، وما توهَّمْت طَرْفَة عَيْن أنِّي أعجِزُ اللَّه هَرَباً ، وإنِّي لَنَادِمٌ تَائِبٌ ، مستغفرٌ ، فما حالي ؟ فأنزل اللَّه هذه الآية{[9727]} .

فصل في استدلال الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على حجية الإجماع

رُوِيَ{[9728]} أن الشَّافِعِي - رضي الله عنه - سُئِلَ عن آيَة في كِتَاب اللَّه - تعالى - تدلُّ على أنَّ الإجْمَاع حجَّة ، فقرأ القُرآن ثلاثمِائَة مرَّة ، حتَّى وَجَد هذه الآيَة{[9729]} ، وتقرير الاسْتِدْلال ، أن اتِّباع غَيْر سَبِيل المُؤمِنين حَرَامٌ [ فوجب أن يكُون اتِّباع سَبِيل المؤمنين وَاجِباً ]{[9730]} بيان المقدِّمة الأولى : أنه - تعالى - ألحق الوَعِيد بمن يُشَاقِقُ الرَّسُول ، ويتَّبع غير سَبِيل المُؤمنين ، ولو لم يَكُن ذلك مُوجِباً ، لكان ذلك ضمّاً لما لا أثَر لَهُ في الوَعِيد إلى مَا هُو مُسْتَقِلٌّ باقْتِضَاء ذَلِك الوَعِيد ، وإنَّه غير جَائز ، وإذا كان اتِّبَاعُ غير سَبيل المُؤمنين حَرَاماً ، لزم أن يَكُون اتِّباع سَبيلِ المؤمنين وَاجباً ، وإذا كان عَدَم اتِّبَاعهم حَرَاماً ، كان اتِّباعُهُم وَاجباً ، لأنَّه لا خُرُوجَ عن طَرفَي النَّقِيضِ .

فإن قيل : لا نُسَلِّم{[9731]} أنَّ عدم اتِّبَاعِ سَبيل المؤمنين ، يصدق عَليْه أنَّه اتِّباعٌ لغير سَبِيل المُؤمِنين ، فإنه [ لا يَمتنِع ألاَّ ]{[9732]} يتَّبع لا سبيل [ المؤمنين ]{[9733]} ولا غير سَبِيل المُؤمنين .

الجوابُ : أنَّ المتابعة عِبَارةٌ عن الإتْيَان بِمثْل ما فعل الغَيْر ، وإذا كَانَ من شَأن غير المُؤمنين ألاَّ يَتَّبِعُوا سبيل المؤمنين ، فكُلُّ من لَمْ يَتَّبع سَبِيل المؤمنين ، فقد أتَى بِمِثْل ما فعل غَيْر المُؤمنين ؛ فوجب كَوْنُه مُتَّبِعاً لهم .

ولقائل أن يَقُول : الاتِّبَاع ليس عِبَارة عن الإتْيَان بِمِثْل فِعْل الغَيْر ، وإلا لزم أن يُقَال : الأنْبِيَاءُ{[9734]} والملائِكةُ يتبعون لآحَاد الخَلْق من حَيْثُ إنَّهُم يوحِّدُون اللَّه [ - تعالى - ]{[9735]} لما أن كُلَّ واحد من آحَاد الأمَّة يوحِّد اللَّه - تعالى - ، ومعلوم أنَّ ذلك لا يُقَال ، بل الاتِّباع عِبَارة عن الإتْيَان بمثل فِعْل الغَيْر ، لأجْل أنه فِعْل ذلك الغَيْر ، ومن كان كذلك فمن{[9736]} تركَ مُتابعَة سبيل المؤمنين ؛ لأجل أنَّه ما وَجَد على وُجُوب مُتَابَعَتِهم دَلِيلاً ، فلا جَرَم لم يَتَّبِعْهُم ، فهذا شَخْصٌ لا يكون مُتَّبِعاً لغير سَبِيل المُؤمنين .

وقال ابن الخَطِيب{[9737]} : وهذا سُؤال قَوِيٌّ على هذا الدَّلِيل ، وفيه أبْحَاث أخَر دَقِيقَةٌ ذكرناها في كِتَاب المَحْصُول .


[9720]:سقط في أ.
[9721]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/182-183) عن قتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/384) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.
[9722]:سقط في أ.
[9723]:سقط في أ.
[9724]:في أ: جاء.
[9725]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (9/185-186) عن السدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/385) وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
[9726]:في أ: فكان.
[9727]:ذكره البغوي في تفسيره 1/480-481.
[9728]:في ب: قيل.
[9729]:ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (11/35).
[9730]:سقط في أ.
[9731]:في أ: الأسلم.
[9732]:في ب: يمنع أن.
[9733]:سقط في أ.
[9734]:في أ: الأتباع.
[9735]:سقط في أ.
[9736]:في ب: فقد.
[9737]:ينظر: تفسير الرازي 11/35.