قوله عز وجل :{ مثل الذين حملوا التوراة } ، أي كلفوا القيام بها والعمل بما فيها ، { ثم لم يحملوها } لم يعملوا بما فيها ولم يؤدوا حقها ، { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } ، أي كتباً من العلم ، واحدها سفر ، قال الفراء : هي الكتب العظام يعني كما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها ، كذلك اليهود يقرؤون التوراة ولا ينتفعون بها لأنهم خالفوا ما فيها ، { بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء عليهم السلام ، يعني من سبق في علمه أنه لا يهديهم .
بعد ذلك يذكر ما يفيد أن اليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله ؛ فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل :
( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا . بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ! والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
فبنوا إسرائيل حملوا التوراة ، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة . . ( ثم لم يحملوها ) . . فحملها يبدأ بالإدراك والفهم والفقه ، وينتهي بالعمل لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وعالم الواقع . ولكن سيرة بني إسرائيل كما عرضها القرآن الكريم - وكما هي في حقيقتها - لا تدل على أنهم قدروا هذه الأمانة ، ولا أنهم فقهوا حقيقتها ، ولا أنهم عملوا بها . ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام ، وليس له منها إلا ثقلها . فهو ليس صاحبها . وليس شريكا في الغاية منها !
وهي صورة زرية بائسة ، ومثل سيئ شائن ، ولكنها صورة معبرة عن حقيقة صادقة ( بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
ومثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها . . كل الذين حملوا أمانة العقيدة ثم لم يحملوها . والمسلمون الذين غبرت بهم أجيال كثيرة ، والذين يعيشون في هذا الزمان ، وهم يحملون أسماء المسلمين ولا يعملون عمل المسلمين . وبخاصة أولئك الذين يقرأون القرآن والكتب ، وهم لا ينهضون بما فيها . . أولئك كلهم ، كالحمار يحمل أسفارا . وهم كثيرون كثيرون ! فليست المسألة مسألة كتب تحمل وتدرس . إنما هي مسألة فقه وعمل بما في الكتب .
يقول تعالى ذامًّا لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ، فلم يعملوا بها ، مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا ، أي : كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها ، فهو يحملها حملا حسيا{[28815]} ولا يدري ما عليه . وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه ، حفظوه لفظا ولم يفهموه{[28816]} ولا عملوا بمقتضاه ، بل أولوه وحرفوه وبدلوه ، فهم أسوأ حالا من الحمير ؛ لأن الحمار لا فهمَ له ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها ؛ ولهذا قال في الآية الأخرى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] وقال هاهنا : { بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
وقال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا ابن نُمَير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا ، والذي يقول له " أنصت " ، ليس له جمعة " {[28817]}
القول في تأويل قوله تعالى : { مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُواْ التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : مثل الذين أوتوا التوراة من اليهود والنصارى ، فحملوا العمل بها ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوها يقول : ثم لم يعملوا بما فيها ، وكذّبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أمروا بالإيمان به فيها واتباعه والتصديق به كَمَثَلِ الْحِمارِ يحمِلُ أسْفارا يقول : كمثل الحمار يحمل على ظهره كتبا من كتب العلم ، لا ينتفع بها ، ولا يعقل ما فيها ، فكلك الذين أوتوا التوراة التي فيها بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم مثلهم إذا لم ينتفعوا بما فيها ، كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا فيها علم ، فهو لا يعقلها ولا ينتفع بها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، في قوله : يَحْمِلُ أسْفارا قال : يحمل كتبا لا يدري ما فيها ، ولايعقلها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التّوْراة ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا قال : يحمل كتابا لا يدري ماذا عليه ، ولا ماذا فيه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا قال : كمثل الحمار الذي يحمل كتبا ، لا يدري ما على ظهره .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا كتبا ، والكتاب بالنبطية يسمى سِفْرا ضرب الله هذا مثلاً للذين أعطوا التوراة ثم كفروا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التّوْراةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا والأسفار : الكتب ، فجعل الله مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يتبع ما فيه ، كمثل الحمار يحمل كتاب الله الثقيل ، لا يدري ما فيه ، ثم قال : بِئْسَ مَثَلُ القَوْم الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِ اللّهِ . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا قال : الأسفارُ : التوراة التي يحملها الحمار على ظهره ، كما تحمل المصاحف على الدواب ، كمثل الرجل يسافر فيحمل مصحفه ، قال : فلا ينتفع الحمارُ بها حين يحملها على ظهره ، كذلك لم ينتفع هؤلاء بها حين لم يعلموا بها وقد أوتوها ، كما لم ينتفع بها هذا وهي على ظهره .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس في قوله كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا يقول : كتبا . والأسفار : جمع سفر ، وهي الكتاب العظام .
وقوله : بِئْسَ مثلُ القَوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِ اللّهِ يقول : بئس هذا المثل ، مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله ، يعني بأدلته وحججه واللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ يقول تعالى ذكره : والله لا يوفّق القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فكفروا بآيات ربهم .
{ الذين حملوا التوراة } هم بنو إسرائيل الأحبار المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، و { حملوا } معناه : كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها ، فهذا كمال حمل الإنسان الأمانة ، وليس ذلك من الحمل على الظهر ، وإن كان مشتقاً منه ، وذكر تعالى أنهم { لم يحملوها } ، أي لم يطيعوا أمرها ، ويقفوا عند حدها حين كذبوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ، و { التوراة } تنطق بنبوته ، فكان كل حبر لم ينتفع بما حمل كمثل حمار عليه أسفار ، فهي عنده والزبل وغير ذلك بمنزلة واحدة ، وقرأ يحيى بن يعمر : «حَمَلوا » بفتح الحاء والميم مخففة ، وقرأ المأمون العباسي : «يُحَمَّل أسفاراً » بضم الياء وفتح الحاء وشد الميم مفتوحة ، وفي مصحف ابن مسعود : «كمثل حمار » بغير تعريف ، والسفر : الكتاب المجتمع الأوراق منضودة ، ثم بين حال مثلهم وفساده بقوله تعالى : { بئس مثل القوم } .