الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (5)

قوله : { حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ } : هذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ زيد بن علي ويحيى بن يعمر " حَمَلوا " مخففاً مبنياً للفاعل .

قوله { كَمَثَلِ الْحِمَارِ } هذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ عبدُ الله " حِمارٍ " منكَّراً . وهو في قوة قراءةِ الباقين ؛ لأنَّ المراد بالحمارِ الجنسُ . ولهذا وُصِفَ بالجملةِ بعده كما سيأتي . وقرأ المأمون ابن هارون الرشيد " يُحَمَّلُ " مشدَّداً مبنياً للمفعول . والجملة مِنْ " يَحْمِلُ " أو " يُحْمَّلُ " فيها وجهان ، أحدُهما : وهو المشهورُ أنَّها في موضع الحال من " الحمار " والثاني : أنَّها في موضع الصفةِ للحمار لجريانِه مَجْرى النكرة ؛ إذ المُرادِ به الجنسُ . قال الزمخشري : " أو الجرِّ على الوصفِ ؛ لأنَّ الحمارَ كاللئيمِ في قوله :

ولَقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد تقدَّم تحريرُ هذا ، وأنَّ منه عند بعضِهم

{ وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ } [ يس : 37 ] وأنَّ " نَسْلَخُ " نعتٌ ل الليل . والجمهورُ يَجْعَلونه حالاً للتعريف اللفظي . وأمَّا على قراءةِ عبد الله فالجملةُ وصفٌ فقط ، ولا يمتنعُ أَنْ تكونَ حالاً عند سيبويه .

والأَسْفار : جمعُ سِفْرٍ ، وهو الكتابُ المجتمعُ الأوراقِ .

قوله { بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ } فيه أوجهٌ ، أحدها : وهو الظاهرُ المشهور أنَّ " مَثَلُ القوم " فاعلُ " بِئْس " . والمخصوصُ بالذَّمِّ الموصولُ بعده فَيُشْكِلُ ؛ لأنه/ لا بُدَّ مِنْ تصادُقِ فاعلِ نِعْم وبِئْسَ والمخصوصِ ، وهنا المَثَلُ ليس القومَ المكذِّبين . والجواب : أنَّه على حَذْفِ مضافٍ ، أي : بِئْسَ مَثَلُ القومِ مَثَلُ الذين كَذَّبوا . الثاني : أنَّ " الذين " صفةٌ للقوم فيكونُ مجرورَ المحلِّ ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ لِفَهْمِ المعنى تقديره : بِئْس مَثَلُ القومِ المكذِّبين مَثَلُ هؤلاء ، وهو قريبٌ من الأولِ . الثالث : أنَّ الفاعلَ محذوفٌ ، وأنَّ مَثَلَ القومِ هو المخصوصُ بالذِّم ، تقديرُه : بِئْسَ المَثَلُ مَثَلُ القوم ، ويكونُ الموصولُ نعتاً للقوم أيضاً ، وإليه يَنْحو كلامُ ابنِ عطيةً ، فإنه قال : " والتقديرُ : بِئْسَ المَثَلُ مَثَلُ القومِ . وهذا فاسدٌ ؛ لأنَّه لا يُحْذَفُ الفاعلُ عند البَصْريين ، إلاَّ في مواضعَ ثلاثةٍ ، ليس هذا منها ، اللهم إلاَّ أَنْ يقولَ بقولِ الكوفيين . الرابع : أَنْ يكونَ التمييزُ محذوفاً ، والفاعل المُفَسَّرُ به مستترٌ تقديرُه : بئس مَثَلاً مَثَلُ القوم ، وإليه يَنْحو كلامُ الزمخشريِّ فإنه قال : " بئْسَ مَثَلاً مَثَلُ القوم " فيكونُ الفاعلُ مستتراً ، مُفَسَّرٌ ب " مَثَلاً " ، و " مَثَلُ القومِ " هو المخصوصُ بالذمِّ والموصولُ صفةٌ له ، وحُذِفَ التمييزُ ، وهذا لا يُجيزه سيبويهِ وأصحابُه البتةَ ، نَصُّوا على امتناعِ حَذْفِ التمييزِ ، وكيف يُحْذَفُ وهو مُبَيِّنٌ ؟