اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (5)

قوله : { مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة } .

هذه قراءة العامَّة .

وقرأ زيد بن علي ويحيى{[56560]} بن يعمر : «حَمَلُوا » مخففاً مبنياً للفاعل .

قوله : { كَمَثَلِ الحمار } .

هذه قراءة العامة .

وقرأ عبد{[56561]} الله : «حِمَارٍ » منكراً ، وهو في قوة قراءة الباقين ، لأن المراد بالحمار : الجِنْس ولهذا وصف بالجملة بعده ، كما سيأتي{[56562]} .

وقرأ المأمون{[56563]} بن هارون الرشيد : «يُحَمَّل » مشدداً مبنيًّا للمفعول .

والجملة من «يَحْمِلُ أو يُحَمَّلُ » فيها وجهان{[56564]} :

أشهرهما : أنه في موضع الحال من «الحمار » .

والثاني : أنها في موضع الصفة للحمار ، لجريانه مجرى النكرة ، إذ المراد به الجنس .

قال الزمخشري{[56565]} : أو الجر على الوصف لأن الحمار كاللئيم ، في قوله : [ الكامل ]

4767 - وَلقَدْ أمُرُّ على اللَّئيمِ يسُبُّنِي *** . . . {[56566]}

وتقدم تحرير ذلك وأن منه عند بعضهم : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ }[ يس : 37 ] ، وأن «نسلخ » نعت لليل ، والجمهور يجعلونه حالاً للتعريف اللفظي .

وأما على قراءة عبد الله : فالجملة وصف فقط ، ولا يمتنع أن تكون حالاً عند سيبويه{[56567]} . والأسفار : جمع سفر ، وهو الكتاب المجتمع الأوراق .

فصل في تفسير هذا المثل{[56568]}

هذا مثل ضرب لليهود لما تركوا العمل بالتوراة ، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم «حُمِّلُوا التَّوراةَ » أي : كلفوا العمل بها . قاله ابن عباس{[56569]} .

وقال الجرجاني : هو من الحمالة بمعنى الكفالة ، أي : ضمنوا أحكام التوراة .

وقوله : { ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } .

لم يعملوا بما فيها ولم يؤدّوا حقها { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } أي : كتباً من العلم ، واحدها سفر .

قال الفرَّاء{[56570]} : هي الكتب العظام ، لأنها تسفر عما فيها من المعاني إذا قرئت ، ونظيره : شبر وأشبار .

يعني كما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود يقرأون التوراة ولا ينتفعون بها ، لأنهم خالفوا ما فيها .

قال ميمون بن مهران : الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل ، كذلك اليهود ، وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه ويعمل به لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء{[56571]} .

قال الشاعر : [ الطويل ]

4768 - لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي البَعِيرُ إذَا غَدَا***بأوسَاقِهِ أوْ رَاحَ مَا فِي الغَرَائِرِ{[56572]}

قوله : { بِئْسَ مَثَلُ القوم } فيه أوجه{[56573]} :

أحدها : وهو المشهُور أن «مثَلُ القَوْمِ » فاعل «بِئْسَ » والمخصوص [ بالذم الموصول بعده ، وهذا مشكل ؛ لأنه لا بد من تصادق فاعل «نعم وبئس » والمخصوص هنا : «المثل » ليس بالقوم المكذبين ]{[56574]} .

والجواب : أنه على حذف مضاف ، أي : بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا .

الثاني : أن «الَّذينَ » صفة للقوم فيكون مجرور المحلّ ، والمخصوص بالذَّم محذوف لفهم المعنى ، تقديره : بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء ، وهو قريب من الأول .

الثالث : أن الفاعل محذوف ، وأن «مثل القوم » هو المخصوص بالذَّم ، وتقديره : بئس المثل مثل القوم ، ويكون الموصول نعتاً للقوم أيضاً ، وإليه ينحو كلام ابن عطية فإنه قال : والتقدير { بئس المثل مثل القوم } .

وهذا فاسد : لأنه لا يحذف الفاعل عند البصريين إلاَّ في مواضع ثلاثة ليس هذا منها ، اللهم إلا أن يقول بقول الكوفيين .

الرابع : أن يكون التمييز محذوفاً ، والفاعل المفسر به مستتر ، تقديره : «بئس مثلاً مثل القوم » وإليه ينحو كلام الزمخشري فإنه قال{[56575]} : «بئس مثلاً مثل القوم » .

فيكون الفاعل مستتراً مفسراً ب«مَثَلاً » ، و«مثلْ القَوْمِ » هو المخصوص بالذم ، والموصول صفة له ، وحذف التمييز ، وهذا لا يجيزه سيبويه وأصحابه ألبتة{[56576]} .

نصوا على امتناع حذف التمييز ، وكيف يحذف وهو مبين{[56577]} .

فصل

قال ابن الخطيب{[56578]} : فإن قيل : ما الحكمة في تعيين الحمار من دون سائر الحيوانات ؟ .

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنه تعالى خلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة ، كما قال تعالى : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً }[ النحل : 87 ] ، والزينة في الخيل أظهر وأكثر بالنسبة إلى الركوب والحمل عليه ، وفي البغال دون الخيل ، وفي الحمير دون البغال ، فالحمار كالمتوسط في المعاني الثلاثة ، وحينئذ يكون الحمار في معنى الحمل أظهر وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال وغيرهما من الحيوانات .

وثانيها : أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة لأولئك القوم ، والحمار يمثل به في الجهل والبلادة .

وثالثها : أن في الحمار من الحقارة ما ليس في غيره من الحيوانات . والغرض من الكلام هاهنا تحقير القوم وتعييرهم ، فيكون تعيين الحمار أليق .

ورابعها : أن حمل الأسفار على الحمار أسهل وأعمّ وأسهل لسرعة انقياده ، فإنه ينقاد للصبي الصغير من غير كلفة ، وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره .

وخامسها : أن رعاية الألفاظ والمناسبة من لوازم الكلام [ وبين ]{[56579]} لفظ الأسفار والحمار مناسبة لفظة [ لا توجد ]{[56580]} في غيره من الحيوانات فيكون ذكره أولى .

فصل

قال القرطبي{[56581]} : «معنى الكلام : بئس مثل القوم المثل الذي ضربناه لهم فحذف المضاف { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء يعني من سبق في علمه أنه يكون كافراً » .


[56560]:ينظر: المحرر الوجيز 5/307، والبحر المحيط 8/263، والدر المصون 6/315.
[56561]:ينظر: المحرر الوجيز5/307، البحر المحيط 8/263، والدر 6/315.
[56562]:ينظر: الدر المصون 6/316، والكشاف 4/530.
[56563]:ينظر: المحرر الوجيز 5/307، والبحر المحيط 8/263، والدر المصون 6/315.
[56564]:ينظر: الدر المصون 6/316.
[56565]:الكشاف 4/530.
[56566]:تقدم.
[56567]:ينظر: الكتاب 1/199.
[56568]:ينظر: القرطبي 18/62.
[56569]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/62) عن ابن عباس.
[56570]:ينظر: معاني القرآن للفراء 3/155.
[56571]:ينظر: القرطبي 18/62.
[56572]:البيت لمروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة. ينظر القرطبي 18/95، والبحر 8/263.
[56573]:ينظر: الدر المصون 6/316.
[56574]:في أ هنا: بئس القوم الذين كذبوا.
[56575]:ينظر: الكشاف 4/30.
[56576]:ينظر: الكتاب 1/300.
[56577]:ينظر: الدر المصون 6/316.
[56578]:ينظر: التفسير الكبير 30/6.
[56579]:سقط من أ.
[56580]:في أ: لأنه.
[56581]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/63.