قوله تعالى : { قالوا } يعني : السحرة { لن نؤثرك } لن نختارك { على ما جاءنا من البينات } يعني : الدلالات ، قال مقاتل : يعني اليد البيضاء والعصا . وقيل : كان استدلالهم أنهم لو كان هذا سحراً فأين حبالنا وعصينا ؟ وقيل : من البينات يعني : من اليقين والعلم . حكي عن القاسم بن أبي بزة أنه قال : إنهم لما ألقوا سجداً ما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ، ورأوا ثواب أهلها ، ورأوا منازلهم في الجنة فعند ذلك قالوا : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات { والذي فطرنا } يعني : لن نؤثرك على الله الذي فطرنا وقيل : هو قسم { فاقض ما أنت قاض } يعني : فاصنع ما أنت صانع { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } يعني : أمرك وسلطانك في الدنيا وسيزول عن قريب .
ولكنه كان قد فات الأوان . كانت اللمسة الإيمانية قد وصلت الذرة الصغيرة بمصدرها الهائل . فإذا هي قوية قويمة . وإذا القوى الأرضية كلها ضئيلة ضئيلة . وإذا الحياة الأرضية كلها زهيدة زهيدة . وكانت قد تفتحت لهذه القلوب آفاق مشرقة وضيئة لا تبالي أن تنظر بعدها إلى الأرض وما بها من عرض زائل . ولا إلى حياة الأرض وما فيها من متاع تافه :
( قالوا : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاض . إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر ، والله خير وأبقى ) .
إنها لمسة الإيمان في القلوب التي كانت منذ لحظة تعنو لفرعون وتعد القربى منه مغنما يتسابق إليه المتسابقون . فإذا هي بعد لحظة تواجهه في قوة ، وترخص ملكه وزخرفه وجاهه وسلطانه :
( قالوا : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا . . )فهي علينا أعز وأغلى وهو جل شأنه أكبر وأعلى . ( فاقض ما أنت قاض )ودونك وما تملكه لنا في الأرض . ( إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) . فسلطانك مقيد بها ، وما لك من سلطان علينا في غيرها . وما أقصر الحياة الدنيا ، وما أهون الحياة الدنيا . وما تملكه لنا من عذاب أيسر من أن يخشاه قلب يتصل بالله ، ويأمل في الحياة الخالدة أبدا .
فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم ، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل ، و{ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ } أي : لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين . { وَالَّذِي فَطَرَنَا } يحتمل أن يكون قسمًا ، ويحتمل أن يكون معطوفًا على البينات .
يعنون : لا{[19431]} نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم ، المبتدئ خلقنا من الطين ، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت .
{ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } أي : فافعل ما شئت وما وَصَلَت إليه يدك ، { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : إنما لك تَسَلُّط في هذه الدار ، وهي دار الزَّوال ونحن قد رغبنا في دار القرار . {[19432]}
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ لَن نّؤْثِرَكَ عَلَىَ مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنّمَا تَقْضِي هََذِهِ الْحَيَاةَ الدّنْيَآ * إِنّآ آمَنّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ } .
يقول تعالى ذكره : قالت السحرة لفرعون لما توعدهم بما توعّدهم به : لَنْ نُؤْثِرَكَ فنتبعك ونكذّب من أجلك موسى عَلى ما جاءَنا مِنَ البّيّناتِ يعني من الحجج والأدلة على حقيقة ما دعاهم إليه موسى . وَالّذِي فَطَرَنا يقول : قالوا : لن نؤثرك على الذي جاءنا من البينات ، وعلى الذي فطرنا . ويعني بقوله : فَطَرنا : خلقنا ، فالذي من قوله : وَالّذِي فَطَرنا خفض على قوله : ما جاءَنا ، وقد يحتمل أن يكون قوله : وَالّذِي فَطَرنا خفضا على القسم ، فيكون معنى الكلام : لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات والله . وقوله : " فاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ " يقول : فاصنع ما أنت صانع ، واعمل بنا ما بدا لك إنما تَقْضِي هَذِهِ الحَياةَ الدّنيا يقول : إنما تقدر أن تعذّبنا في هذه الحياة الدنيا التي تفنى . ونصب الحياة الدنيا على الوقت وجعلت إنما حرفا واحدا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حُدثت عن وهب بن منبه " لَنْ نُؤْثرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ البَيّناتِ وَالّذِي فَطَرَنا " أي على الله على ما جاءنا من الحجج مع بينة . " فاقْضِ ما أنْتَ قاضٍ " : أي اصنع ما بدا لك . " إنّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدّنيا " أي ليس لك سلطان إلا فيها ، ثم لا سلطان لك بعده .
{ قالوا لن نؤثرك } لن نختارك . { على ما جاءنا } موسى به ، ويجوز أن يكون الضمير فيه لما . { من البينات } المعجزات الواضحات . { الذي فطرنا } عطف على ما جاءنا أو قسم { فاقض ما أنت قاض } ما أنت قاضيه أي صانعه أو حاكم به . { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } إنما تصنع ما تهواه ، أو تحكم ما تراه في هذه الدنيا { والآخرة خير وأبقى } فهو كالتعليل لما قبله والتمهيد لما بعده . وقرئ { تقضي هذه الحياة الدنيا } كقولك : صيم يوم الجمعة .
أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه ، إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين ، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرقت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته . ولنا في عمر بن الخطّاب ونحوه ممن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم مَثَلُ صدق .
والإيثار : التفضيل . وتقدّم في قوله تعالى : { لقد آثرك الله علينا } في سورة يوسف ( 91 ) . والتفضيل بين فرعون وما جاءهم من البيّنات مقتض حذف مضاف يناسب المقابلة بالبيّنات ، أي لن نؤثر طاعتك أو دينك على ما جاءنا من البيّنات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى ، وبذلك يلتئم عطف { والذي فَطَرنا } ، أي لا نؤثرك في الربوبية على الذي فطرنا .
وجيء بالموصول للإيماء إلى التّعليل ، لأنّ الفاطر هو المستحق بالإيثار .
وأخر { الذي فطرنا } عن { ما جَاءَنَا مِنَ البينات } لأنّ البيّنات دليل على أنّ الذي خلقهم أراد منهم الإيمان بموسى ونبذ عبادة غير الله ، ولأنّ فيه تعريضاً بدعوة فرعون للإيمان بالله .
وصيغة الأمر في قوله { فَاقْضِ مَا أنتَ قَاضٍ } مستعملة في التسوية ، لأن { ما أنت قاض } مَا صْدَقُه ما توعدهم به من تقطيع الأيدي والأرجل والصّلببِ ، أي سواء علينا ذلك بعضه أو كلّه أو عدم وقوعه ، فلا نطلب منك خلاصاً منه جزاء طاعتك فافعل ما أنت فاعل ( والقضاء هنا التنفيذ والإنجاز ) فإنّ عذابك لا يتجاوز هذه الحياة ونحن نرجو من ربنا الجزاء الخالد .
وانتصب { هذه الحياة } على النيابة عن المفعول فيه ، لأنّ المراد بالحياة مُدّتُها .
والقصر المستفاد من ( إنما ) قصر موصوف على صفة ، أي إنك مقصور على القضاء في هذه الحياة الدنيا لا يتجاوزه إلى القضاء في الآخرة ، فهو قصر حقيقيّ .