التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{قَالُواْ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ} (72)

أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه ، إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين ، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرقت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته . ولنا في عمر بن الخطّاب ونحوه ممن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم مَثَلُ صدق .

والإيثار : التفضيل . وتقدّم في قوله تعالى : { لقد آثرك الله علينا } في سورة يوسف ( 91 ) . والتفضيل بين فرعون وما جاءهم من البيّنات مقتض حذف مضاف يناسب المقابلة بالبيّنات ، أي لن نؤثر طاعتك أو دينك على ما جاءنا من البيّنات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى ، وبذلك يلتئم عطف { والذي فَطَرنا } ، أي لا نؤثرك في الربوبية على الذي فطرنا .

وجيء بالموصول للإيماء إلى التّعليل ، لأنّ الفاطر هو المستحق بالإيثار .

وأخر { الذي فطرنا } عن { ما جَاءَنَا مِنَ البينات } لأنّ البيّنات دليل على أنّ الذي خلقهم أراد منهم الإيمان بموسى ونبذ عبادة غير الله ، ولأنّ فيه تعريضاً بدعوة فرعون للإيمان بالله .

وصيغة الأمر في قوله { فَاقْضِ مَا أنتَ قَاضٍ } مستعملة في التسوية ، لأن { ما أنت قاض } مَا صْدَقُه ما توعدهم به من تقطيع الأيدي والأرجل والصّلببِ ، أي سواء علينا ذلك بعضه أو كلّه أو عدم وقوعه ، فلا نطلب منك خلاصاً منه جزاء طاعتك فافعل ما أنت فاعل ( والقضاء هنا التنفيذ والإنجاز ) فإنّ عذابك لا يتجاوز هذه الحياة ونحن نرجو من ربنا الجزاء الخالد .

وانتصب { هذه الحياة } على النيابة عن المفعول فيه ، لأنّ المراد بالحياة مُدّتُها .

والقصر المستفاد من ( إنما ) قصر موصوف على صفة ، أي إنك مقصور على القضاء في هذه الحياة الدنيا لا يتجاوزه إلى القضاء في الآخرة ، فهو قصر حقيقيّ .