الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالُواْ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ} (72)

قوله : { وَالَّذِي فَطَرَنَا } : فيه وجهان ، أحدهما : أن الواوَ عاطفةٌ ، عَطَفَتْ هذا الموصولَ على " ما جاءنا " أي : لن نؤثرَك على الذي جاءنا ، ولا على الذي فطرنا . وإنما أخَّروا ذِكْرَ البارِيْ تعالى لأنه من باب الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى . والثاني : أنها واوُ قسمٍ ، والموصولُ مقسمٌ به . وجوابُ القسمِ محذوفٌ أي : وحَقِّ الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق . ولا يجوز أن يكونَ الجوابُ " لن نُؤْثرك " عند مَنْ يَجَوِّزُ تقديمَ الجواب ؛ لأنه لا يُجاب القسمُ ب " لن " إلاَّ في شذوذٍ من الكلام .

قوله : { مَآ أَنتَ قَاضٍ } يجوز في " ما " وجهان ، أظهرُهما : أنها موصولةٌ بمعنى الذي ، و " أنت قاضٍ " صلتُها والعائدُ محذوفٌ ، اي : قاضِيه . وجاز حَذْفُه ، وإنْ كان مخفوضاً ، لأنه منصوب المحل . أي : فاقضِ الذي أنت قاضِيْه . والثاني : أنها مصدريةٌ ظرفيةٌ ، والتقدير : فاقضِ أمرك مدةَ ما أنتَ قاضٍ . ذكر ذلك أبو البقاء . وقد منع بعضُهم ذلك أعني جَعْلَها مصدريةً قال : لأنَّ : " ما " المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية . وهذا المَنْعُ ليس مجمعاً عليه ، بل جَوَّز ذلك جماعةٌ كثيرة . ونقل ابنُ مالك أنَّ ذلك يَكْثُر إذا دَلَّتْ " ما " على الظرفية . وأنشد :

واصِلْ خليلَك ما التواصُلُ مُمْكِنٌ *** فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قليلٍ ذاهِبُ

وَيِقلُّ إنْ كانت غيرَ ظرفية . وأنشد :

أحْلامُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شافيةٌ *** كما دِماؤُكُمُ تَشْفي مِن الكَلَبِ

قوله : { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ } يجوز في " ما " هذه وجهان ، أحدهما : أن تكونَ المهيئةَ لدخول " إنَّ " على الفعل و " الحياةَ الدنيا " ظرفٌ ل " تَقضي " ، ومفعولُه محذوفٌ أي : تقضي غرضَك وأمرَك . ويجوز أن تكونَ " الحياةَ " مفعولاً به على الاتساع ، ويدلُّ لذلك قراءةُ أبي حيوة " تُقْضَى هذه الحياةُ " ببناء الفعلِ للمفعول ورَفْعِ " الحياة " لقيامها مقام الفاعلِ ؛ وذلك أنه اتُّسِع فيه فقام مقامَ الفاعلِ فرُفِعَ .

والثاني : أن تكونَ " ما " مصدريةً هي اسمُ " إنَّ " ، والخبرُ الظرفُ . والتقدير : إنَّ قضاءَكَ في هذه الحياةِ الدنيا ، يعني : إن لك الدنيا فقط ، ولنا الآخرةَ .

وقال أبو البقاء : " فإنْ كان قد قُرِيء بالرفع فهو خبرُ إنَّ " . يعني لو قرىء برفعِ " الحياة " لكان خبراً ل " إنَّ " ويكون اسمُها حينئذٍ " ما " ، وهي موصولةٌ بمعنى الذي ، وعائدُها محذوفٌ تقديره : إنَّ تَقْضِيه هذه الحياةُ لا غيرُها .