قوله تعالى : { هو السميع العليم *ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } ، هو استفهام معناه : وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ؟ وقيل : وما يتبعون حقيقة ، لأنهم يعيدونها على ظن أنهم شركاء فيشفعون لنا ، وليس على ما يظنون . { إن يتبعون إلا الظن } ، يظنون أنها تقربهم إلى الله تعالى ، { وإن هم إلا يخرصون } ، يكذبون .
وفي ملك يده كل من في السماوات وكل من في الأرض من إنس وجن وملائكة ، وفي عصاة وتقاة ، فكل ذي قوة من خلقه داخل في سلطانه وملكه :
( ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض ) . .
وهذه حكمة ذكر( من )هنا لا " ما " لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء . فالسياق جار فيها مجراه .
( وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ) . .
فهؤلاء الشركاء الموهومون ليسوا في حقيقتهم شركاء لله في شيء ؛ وعبادهم ليسوا على يقين مما يزعمون لهم من شركة :
ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض ، وأن المشركين يعبدون الأصنام ، وهي لا تملك شيئا ، لا{[14329]} ضرًا ولا نفعا ، ولا دليل لهم على عبادتها ، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلآ إِنّ للّهِ مَن فِي السّمَاوَات وَمَنْ فِي الأرْضِ وَمَا يَتّبِعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ألا إنّ لِلّهِ يا محمد كلّ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ ملكا وعبيدا لا مالك لشيء من ذلك سواه ، يقول : فكيف يكون إلها معبودا من يعبده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام ، وهي لله ملك ، وإنما العبادة للمالك دون المملوك ، وللربّ دون المربوب . وَما يَتّبِعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ شُرَكاءَ يقول جلّ ثناؤه : وأيّ شيء يتبع من يدعو من دون الله ، يعني غير الله وسواه شركاء . ومعنى الكلام : أيّ شيء يتبع من يقول لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبا ، والله المنفرد بملك كلّ شيء في سماء كان أو أرض . إنْ يَتّبِعُونَ إلاّ الظّنّ يقول : ما يتبعون في قيلهم ذلك ودعواهم إلا الظنّ ، يقول : إلا الشكّ لا اليقين . وَإنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ يقول : وإن هم يتقوّلون الباطل تظننا وتخرّصا للإفك عن غير علم منهم بما يقولون .
{ ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض } من الملائكة والثقلين ، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات عبيدا لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ندا أو شريكا فهو كالدليل على قوله : { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } أي شركاء على الحقيقة وإن كان يسمونها شركاء ، ويجوز أن يكون { شركاء } مفعول { يدعون } ومفعول { يتبع } محذوف دل عليه . { إن يتّبعون إلا الظن } أي ما يتبعون يقينا وإنما يتبعون ظنهم أنها شركاء ، ويجوز أن تكون { ما } استفهامية منصوبة ب { يتبع } أو موصولة معطوفة على من وقرئ " تدعون " بالتاء الخاطبية والمعنى : أي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، أي أنهم لا يتبعون إلا الله ولا يعبدون غيره فما لكم لا تتبعونهم فيه كقوله : { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } فيكون إلزاما بعد برهان وما بعده مصروف عن خطابهم لبيان سندهم ومنشأ رأيهم . { وإن هم إلا يخرُصون } يكذبون فيما ينسبون إلى الله أو يحزرون ويقدرون أنها شركاء تقديرا باطلا .
ثم استفتح بقوله { ألا إن لله من في السماوات والأرض } أي بالملك والإحاطة ، وغلب من يعقل في قوله { من } إذ له ملك الجميع ما فيها ومن فيها ، وإذا جاءت العبارة ب «ما » فذلك تغليب للكثرة إذ الأكثر عدداً من المخلوقات لا يعقل ، ف { من } تقع للصنفين بمجموعهما ، «وما » كذلك « ، ولا تقع لما يعقل إذا تجرد من أن تقول : ما قائل هذا القول ؟ هذا ما يتقلده من يفهم كلام العرب ، وقوله { وما يتبع } يصح أن تكون { ما } استفهاماً بمعنى التقرير وتوقيف نظر المخاطب ، ويعمل { يدعون } في قوله { شركاء } ويصح أن تكون نافية ويعمل { يتبع } في { شركاء } على معنى أنهم لا يتبعون شركاء حقاً ، ويكون مفعول { يدعون } محذوفا ، وفي هذا الوجه عندي تكلف{[6159]} . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : [ تدعون ] بالتاء ، وهي قراءة غير متجهة{[6160]} ، وقوله وقوله { إن } نافية و { يخرصون } معناه يحدسون ويخمنون لا يقولون بقياس ولا نظر ، وقرأت فرقة » ولا يُحزنك «من أحزن ، وقرأت فرقة » ولا يَحزنك «من حزن .
المقصود بتوجيه هذا الكلام هم المشركون لتأييسهم من كل احتمال لانتصارهم على النَّبيء عليه الصلاة والسلام والمسلمين ، فإن كثيراً منهم حين يفهم ما في الآيات الخمس السَّابقة من قوله : { وما تكون في شأن } [ يونس : 61 ] إلى هنا من التصريح بهوان ، شأنهم عند الله وعند رسوله ومن التعريض باقتراب حلول الغلبة عليهم يخامرهم بعض الشك في صدق الرسول وأنّ ما توعَّدهم به حق ، ثمّ يغالطون أنفسهم ويسلون قلوبهم بأنَّه إن تحقَّق ذلك سيجدون من آلهتهم وساطة في دفع الضر عنهم ويقولون في أنفسهم : لمثل هذا عبدناهم ، وللشَّفاعة عند الله أعددناهم ، فسيق هذا الكلام لقطع رجائهم منهم بالاستدلال على أنَّهم دون ما يظن بهم .
فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ومناسبة وقوعها عقب جملة { ولا يحزنك قولهم } [ يونس : 65 ] أن أقوالهم دحضت بمضمون هذه الجملة . وأما وقوعها عقب جملة { إن العزة لله جميعاً } [ يونس : 65 ] فلأنها حجَّة على أنّ العزّة لله لأنّ الذي له من في السماوات ومن في الأرض تكون له العزّة الحق .
وافتتاح الجملة بحرف التنبيه مقصود منه إظهار أهميَّة العلم بمضمونها وتحقيقه ولذلك عقب بحرف التأكيد ، وزيد ذلك تأكيداً بتقديم الخبر في قوله : { لله من في السماوات ومن في الأرض } وباجتلاب لام الملك .
و { مَنْ } الموصولة شأنها أن تطلق على العقلاء وجيء بها هنا مع أن المقصد الأوّل إثبات أنّ آلهتهم ملك لله تعالى ، وهي جمادات غير عاقلة ، تغليباً ولاعتقادهم تلك الآلهة عقلاء وهذا من مجاراة الخصم في المناظرة لإلزامه بنهوض الحجَّة عليه حتَّى على لازم اعتقاده . والحكم بكون الموجودات العاقلة في السماوات والأرض ملكاً لله تعالى يفيد بالأحرى أن تلك الحجارة ملك الله لأن من يملك الأقوى أقدر على أن يملك الأضعف فإن من العرب من عَبَد الملائكة ، ومنهم من عبدوا المسيح ، وهم نصارى العرب .
وذكر السماوات والأرض لاستيعاب أمكنة الموجودات فكأنه قيل : ألا إنّ لله جميع الموجودات .
وجملة : { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } الخ معطوفة على جملة : { لله من في السماوات ومن في الأرض } . وهي كالنتيجة للجملة الأولى إذ المعنى أن جميع الموجودات ملك لله ، واتّباع المشركين أصنامهم اتباع خاطئ باطل .
و ( ما ) نافية لا محالة ، بقرينة تأكيدها ب ( إنْ ) النَّافية ، وإيراد الاستثناء بعدهما . و { شركاء } مفعول { يدْعون } الذي هو صلة { الذين } .
وجملة : { إن يتبعون } تَوكيدٌ لَفظي لجملة { ما يتبع الذين يدعون } وأعيد مضمونها قضاء لحق الفصاحة حيث حصل من البعد بين المستثنى والمستثنى منه بسبب الصلة الطويلة ما يشبه التعقيد اللفظي وذلك لا يليق بأفصح كلام مع إفادة تلك الإعادة مفاد التأكيد لأن المقام يقتضي الإمعان في إثبات الغرض .
و { الظن } مفعول لِكلا فعلي { يتَّبعُ ، ويتْبعون } فإنهما كفعل واحد . وليس هذا من التنازع لأن فعل التوكيد اللفظي لا يطلب عملاً لأن المقصود منه تكرير اللفظ دون العمل فالتقدير : وما يتبع المشركون إلا الظنّ وإن هم إلا يخرصون .
والظنُّ : هنا اسم منزل منزلة اللازم لم يقصد تعليقه بمظنون معين ، أي شأنهم اتباع الظنون . والمراد بالظن هنا العلم المخطئ .
وقد بينت الجملة التي بعدها أنّ ظنهم لا دليل عليه بقوله : { وإن هم إلا يخرصون } .
والخرْص : القول بالحزر والتخمين . وتقدّم نظير هذه الآية في سورة الأنعام ( 116 ) وهو قوله : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلاّ الظنّ وإن هم إلا يخرصون . }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض}، يقول: هو ربهم وهم عباده، ثم قال: {وما يتبع الذين يدعون}، يعني يعبدون
{من دون الله شركاء}... {إن يتبعون} يعني ما يتبعون {إلا الظن} يعني ما يستيقنون بذلك، {وإن هم إلا يخرصون} الكذب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"ألا إنّ لِلّهِ" يا محمد كلّ "مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ "ملكا وعبيدا، لا مالك لشيء من ذلك سواه، يقول: فكيف يكون إلها معبودا من يعبده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام، وهي لله ملك، وإنما العبادة للمالك دون المملوك، وللربّ دون المربوب.
"وَما يَتّبِعُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ شُرَكاءَ" يقول جلّ ثناؤه: وأيّ شيء يتبع من يدعو من دون الله، يعني غير الله وسواه شركاء. ومعنى الكلام: أيّ شيء يتبع من يقول لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبا، والله المنفرد بملك كلّ شيء في سماء كان أو أرض.
"إنْ يَتّبِعُونَ إلاّ الظّنّ" يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك ودعواهم "إلا الظنّ"، يقول: إلا الشكّ لا اليقين.
"وَإنْ هُمْ إلاّ يَخْرُصُونَ" يقول: وإن هم إلا يتقوّلون الباطل تظنيا وتخرّصا للإفك عن غير علم منهم بما يقولون.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... لما سلى الله النبي (صلى الله عليه وآله) فقال "لا يحزنك "قول هؤلاء الكفار ف" إن العزة لله "يعني القدرة والقهر فإنهم لا يفوتونه، بين بعد ذلك ما يدل عليه وينبه على صحته وهو أن له تعالى" من في السموات ومن في الأرض "يعني العقلاء، وإذا كان له ملك العقلاء فما عداهم تابع لهم، ووجب أن يكون ملكا له،وإنما خص العقلاء تعظيما للأمر. وقوله: "وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء"؛ تحتمل (ما)
أحدهما -أن تكون بمعنى (أي) كأنه قال وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، تقبيحا لفعلهم.
الثاني- أن تكون نافية، وتقديره وما يتبعون شركاء في الحقيقة والمعرفة.
وقوله: "إن يتبعون إلا الظن" معناه ليس يتبعون في اتخاذهم مع الله شركاء إلا الظن لتقليدهم أسلافهم في ذلك أو لشبهة دخلت عليهم بأنهم يتقربون بذلك إلى الله تعالى، وبيَّن بعد ذلك أنهم ليسوا إلا كاذبين بهذا القول والاعتقاد -في قوله" إن هم إلا يخرصون".
وفائدة الآية الإبانة عن أنه يجب إخلاص العبادة لمن يملك السموات والأرض وأن لا يشرك معه في العبادة غيره.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض، وأن المشركين يعبدون الأصنام، وهي لا تملك شيئا، لا ضرًا ولا نفعا، ولا دليل لهم على عبادتها، بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ختمت بعموم سمعه وعلمه بعد قصر العزة عليه، كان كأنه قيل: إن العزة لا تتم إلاّ بالقدرة فأثبت اختصاصه بالملك الذي لا يكون إلاّ بها، فقال مؤكداً لما يستلزمه إشراكهم من الإنكار لمضمون هذا الكلام: {ألآ إن لله} أي الذي له الإحاطة الكاملة؛ ولما كان بعض الناس قد أشركوا ببعض النجوم، جمع فقال معبراً بأداة العقلاء تصريحاً بما أفهمه التعبير سابقاً بأداة غيرهم: {من في السماوات} أي كلها، وابتدأ بها لأن ملكها يدل على ملك الأرض بطريق الأولى، ثم صرح بها في قوله مؤكداً لما تقدم: {ومن في الأرض} أي كلهم عبيده ملوكهم ومن دونهم، نافذ فيهم تصريفه، منقادون لما يريده، وهو أيضاً تعليل ثان لقوله {ولا يحزنك قولهم} أو للتفرد بالعزة، وعبر ب "من "التي للعقلاء والمراد كل ما في الكون لأن السياق لنفي العزة عن غيره، والعقلاء بها أجدر، فنفيها عنهم نفي عن غيرهم بطريق الأولى، ثم غلبوا لشرفهم على غيرهم، ولذا تطلق "ما" التي هي لغيرهم في سياق هو بها أحق ثم يراد بها العموم تغليباً للأكثر الذي لا يعقل على الأقل؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك شريك بقوله عاطفاً على ما تقديره: فما له شريك مما ادعاه المشركون منهما أو من إحداهما: {وما يتبع} أي بغاية الجهد {الذين يدعون} أي على سبيل العبادة {من دون الله} أي الذي له العظمة كلها {شركآء} على الحقيقة؛ ويجوز أن تكون "ما" موصولة تحقيراً للشركاء بالتعبير بأداة ما لا يعقل ومعطوفه على "من" {إن} أي ما {يتبعون} في ذلك الذي هو أصل أصول الدين يجب فيه القطع وهو دعاءهم له شركاء {إلاّ الظن} أي المخطئ على أنه لو كان صواباً كانوا مخطئين فيه حيث قنعوا في الأصل بالظن، ثم نبه على الخطأ بقوله: {وإن} أي وما {هم إلاّ يخرصون} أي يحذرون ذلك ويقولون ما لا حقيقة له أصلاً؛ والإتباع: طلب اللحاق بالأول على تصرف الحال، فهؤلاء اتبعوا الداعي إلى عبادة الوثن وتصرفوا معه فيما دعا إليه، و ظنهم في عبادتها إنما هو بشبيهة ضعيفة كقصد زيادة التعظيم لله وتعظيم تقليد الأسلاف...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوات ومَن فِي الأَرْضِ} من عابد ومعبود، فهو ربهم ومالكهم، وهم عبيده المربوبون المملوكون له.
{ومَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء} له في ربوبيته وملكه، أي إن هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله بدعائهم في الشدائد، واستغاثتهم في النوازل، والتقرب إليهم بالنذور، والقرابين والوسائل، لا يتبعون شركاء له في تدبير أمور عباده ينفعونهم أو يكشفون الضر عنهم؛ إذ لا شركاء له.
{إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} أي ما يتبعون في الحقيقة إلا ظنهم أن هؤلاء الذين يدعونهم أولياء لله وشفعاء عنده، فهم يتوسلون بهم وبتماثيلهم إليه، لأنهم يقيسونه على ملوكهم الظالمين المتكبرين، الذين لا يصل إليهم أحد من رعاياهم إلا بوسائل حجابه ووسائطه ووزارته.
{وإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} أي وما هم في اتباع هذا الظن الذي لا يغني من الحق شيئا إلا يخرصون خرصا، أي يحزرون حزرا، أو يكذبون كذبا، أصل الخرص: الحزر، والتقدير للشيء الذي لا يجري على قياس من وزن أو كيل أو ذرع، بل هو كخرص الثمر على الشجر والحب في الزرع، ولكثرة الخطأ فيه أطلق على لازمه الغالب وهو الكذب، فالظن الذي يبنى عليه يكون من أضعف الظن وأبعده عن الحق، مثاله ما ذكرناه آنفا من قياس الرب في تدبير أمور عباده على الملوك، وهذا قياس شيطاني سمعته من جميع طبقات الجاهلين لعقائد الإسلام، وتوحيد الرحمن، حتى من يلقبون بالعلماء وبالباشاوات، ومثله قولهم في وسائلهم الذين يسمونهم الأولياء: إن الله يحبهم، وكل من يحب أحدا فإنه يقبل وساطته وشفاعته، فيقيسون تأثير عباد الله الصالحين عنده تعالى، على تأثير أصدقاء الملوك والوجهاء ومعشوقيهم في قبولهم منهم جميع ما يطلبونه، ويجهلون أن أفعال الله تعالى إنما تجري بمقتضى مشيئته الأزلية لا تؤثر فيها الحوادث، وأن جميع أوليائه وأنبيائه وملائكته عبيد مملوكون له {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57] أي إن أقرب أولئك الذين يدعونهم ويتوسلون إليه تعالى بهم كالمسيح والملائكة ومن دونهم، هم يتلوسلون إليه راجين خائفين، لا كأعوان الملوك الذين لا يقوم أمر ملكهم بدونهم، ومعشوقيهم الذين لا يتم تمتعهم الشهواني إلا بهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه حكمة ذكر (من) هنا لا "ما "لأن المقصود إثبات أن الأقوياء كالضعفاء كلهم في ملك يده سواء. فالسياق جار فيها مجراه...
فكل كائن هو مؤتمر بأمر من الله تعالى، وما دامت العزة لله جميعا فمصداقها أن لله تعالى ما في السماوات وما في الأرض، وليس هنالك كائن في الوجود يتأبى على أن يكون جنديا من جنود الحق سبحانه، فيكون جنديا للإهلاك، وجنديا للنجاة في نفس الوقت ...
ومعنى إتباعهم شركاء كأن هناك شركاء، رغم أن الأصل والحقيقة ألا شركاء له سبحانه. إذن: فهم يتبعون غير شيء؛ والدليل على ذلك موجود في طي القضية، فهم يعبدونهم من دون الله تعالى، ومعنى العبادة أن يطاع أمر وينهي نهى، وما يعبدونه من أشياء لا أوامر لها ولا نواهي؛ فليس هناك منهج جاءوا به. إذن: فلا ألوهية لهم. إذن: فالأصل ألا شركاء لله تعالى، ولو كان له شركاء لأنزلوا منهجا ولأوجدوا أوامر... الظن-إذن-حكم بالراجح. والخرص: هو التخمين، والقول بلا قاعدة أو دليل. والحق سبحانه يقول هنا: {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}. والقرآن حين يوجه خطابا فهو يأتي بالخطاب المستوعب لكل ممكن، وهو سبحانه حكم عليهم هنا أنهم يتبعون الظن والخرص...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تعود الآيات أعلاه مرّة أُخرى إِلى مسألة التوحيد والشرك والتي تعتبر واحدة من أهم مباحث الإِسلام، وبحوث هذه السورة، وتجرّ المشركين إِلى المحاكمة وتثبت عجزهم.
فتقول أولا: (ألا إِنّ لله من في السماوات ومن في الأرض) وإِذا كان الأشخاص ملكه ومنه، فمن الأُولى أن تكون الأشياء الموجودة في هذا العالم ملكه ومنه، وبناءً على هذه فإِنّه مالك كل عالم الوجود، ومع هذا الحال كيف يمكن أن يكون مماليكه شركاءه؟
ثمّ تضيف الآية: (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إِن يتبعون إلاّ الظّن) إِذ لا دليل ولا برهان لهم على كلامهم (وإِن هم إلاّ يخرصون).
كلمة «الخرص» وردت في اللغة بمعنى الكذب، وكذلك وردت بمعنى الحدس والتخمين، وفي الأصل كما قاله الراغب في مفرداته بمعنى حزر الفواكه، ثمّ تخمينها على الأشجار، ولما كان الحدس والتخمين قد يخطئ أحياناً، فإِنّ هذه المادة قد جاءت بمعنى الكذب أيضاً.
وأساساً، فإنّ إِتباع الظن والحدس الذي لا يستند إِلى أساس ثابت يجرّ الإِنسان في النهاية إِلى وادي الكذب عادة. والأشخاص الذين جعلوا الأصنام شريكة لله سبحانه لم يكن لهم مستند في ذلك إلاّ الأوهام.. الأوهام التي يصعب علينا اليوم حتى تصورها، إِذ كيف يمكن أن يصنع الإِنسان تماثيل ومجسمات لا روح لها، ثمّ يعتبر ما صنعه وخلقه ربّاً له وأنّه هو صاحب إِرادته، وأن أمره بيده؟! يضع مقدراته في يده وتحت تصرفه ويطلب منه حل مشاكله؟! أليست هذه الدعوى من أوضح مصاديق الزيف و الكذب؟
بل يمكن استفادة هذا من الآية كقانون كلي عام بدقة قليلة وهو أنّ كل من يتبع الظن والأوهام الباطلة فإِنّه سينجّر في النهاية إِلى الكذب.. إِنّ الحق والصدق قائم على أساس القطع واليقين، أمّا الكذب فإِنّه يقوم على أساس التخمينات والظنون والشائعات!