اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَآ إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُرَكَآءَۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ} (66)

قوله تعالى : { ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض } الآية .

لمَّا ذكر في الآية المتقدمة : { ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } [ يونس : 55 ] دل على أنَّ كلَّ ما لا يعقلُ ، فهو مُلْكٌ لله - تعالى - ، ومِلْكٌ لهُ ، وههنا أتى بكلمة " مِنْ " وهي مختصَّة بالعقلاء ؛ فدلَّ على أنَّ كلَّ العقلاء داخلون تحت ملك الله وملكه ، فدلَّ مجموعُ الآيتين على أنَّ الكُلَّ مُلْكُه ومِلْكُه . وقيل : المراد ب " من في السَّماواتِ " : العقلاء المُمَيَّزُون ، وهم الملائكة والثقلان ، وخصَّهم بالذِّكر ؛ ليدل على أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه ، فالجمادات أولى بهذه العُبُوديَّة ، فيكون ذلك قدحاً في جعل الأصنام شُركاء لله - تعالى - ، فيكون ذلك من بابِ التنبيه بالأعلى على الأدنى ، ويجوز أن يراد العموم ، وغلب العاقل على غيره .

قوله : " وَمَا يَتَّبِعُ " يجوز في " ما " هذه أن تكون نافية ، وهو الظاهر ، و " شُرَكَاء " مفعولُ " يتَّبعُ " ومفعول " يَدْعُون " محذوفٌ لفهم المعنى ، والتقدير : وما يتَّبعُ الذين يدعُون من دُون اللهِ آلهةً شُركَاءَ ، فآلهة : مفعول " يَدْعُونَ " و " شركاء " : مفعول " يتبع " ، وهو قول الزَّمخشريّ .

قال{[18526]} : " ومعنى وما يتَّبعون شركاء : وما يتَّبعون حقيقة الشُّركاء ، وإن كانُوا يُسَمُّونها شركاء ؛ لأنَّ شركة الله في الربوبية محال ، إن يتَّبعُون إلاَّ ظنَّهم أنهم شركاءُ ثم قال : " ويجوز أن تكون " ما " استفهاماً ، يعني : وأيَّ شيءٍ يتَّبعون ، و " شركاء " على هذا نصب ب " يَدْعُونَ " ، وعلى الأوَّل ب " يتَّبع " وكان حقُّه : " وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء " فاقتصر على أحدهما للدلالة " . وهذا الذي ذكرهُ الزمخشريُّ قد ردَّه مكِّي وأبو البقاء .

أما مكي ، فقال : انتصب " شركاء " ب " يَدْعُون " ومفعول " يتَّبع " قام مقامه { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } لأنَّهُ هو ، ولا ينتصبُ الشُّركاء ب " يتَّبع " لأنَّك تنفي عنهم ذلك ، والله قد أخبر عنهم بذلك .

وقال أبو البقاء{[18527]} : " وشركاء مفعولُ " يَدْعُونَ " ولا يجوزُ أن يكون مفعُول " يتَّبعون " لأنَّ المعنى يصير إلى أنَّهم لم يتَّبعوا شركاء ، وليس كذلك " .

قال شهاب الدِّين : " معنى كلامهما : أنَّه يئول المعنى إلى نفي اتِّباعهم الشركاء ، والواقع أنَّهُم قد اتَّبَعُوا الشركاء " . وجوابه ما تقدَّم من أنَّ المعنى : أنهم وإن اتَّبعُوا شركاء ، فليْسُوا بشركاءَ في الحقيقةِ ، بل في تسميتهم هم لهم بذلك ، فكأنَّهم لم يتَّخذوا شركاء ، ولا اتبعوهم لسلب الصِّفة الحقيقيَّة عنهم ، ومثله قولك : " ما رأيتُ رجلاً " ، أي : مَنْ يستحقُّ أن يسمَّى رجلاً ، وإن كنت قد رأيت الذَّكر من بني آدم ، ويجوز أن تكون " ما " استفهاميَّة ، وتكون حينئذٍ منصوبةً بما بعدها ، وقد تقدَّم قولُ الزمخشري في ذلك .

وقال مكِّي : لو جعلت " ما " استفهاماً بمعنى : الإنكار والتَّوبيخ ، كانت اسماً في موضع نصبٍ ب " يتَّبع " .

وقال أبو البقاء نحوه . ويجوز أن تكون " ما " موصولة بمعنى " الذي " نسقاً على " مَنْ " في قوله : { ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات } .

قال الزمخشري : ويجوز أن تكون " ما " موصولة معطوفة على " مَنْ " كأنَّهُ قيل : ولله ما يتَّبعه الذين يدعُون من دون الله شركاء ، أي : وله شركاؤهُم .

ويجوز أن تكون " ما " هذه الموصولة في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : والذي يتَّبعه المشركون باطلٌ ، فهذه أربعة أوجهٍ .

وقرأ السلمي{[18528]} : " تَدعُون " بالخطاب ، وعزاها الزمخشريُّ لعليّ بن أبي طالب .

قال ابنُ عطيَّة{[18529]} : وهي قراءةٌ غيرُ متَّجهة .

قال شهاب الدِّين{[18530]} : قد ذكر توجيهها الزمخشريُّ ، فقال : ووجهه أن يحمل " وما يتَّبع " على الاستفهام ، أي : وأيُّ شيء يتَّبع الذين تدعُونهُم شركاء من الملائكة والنبيين ، يعني : أنَّهم يتَّبعُون الله - تعالى - ويطيعُونه ، فما لكم لا تفعلُون مثل فعلهم ؛ كقوله : { أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [ الإسراء : 57 ] .

قوله : " إن يتَّبِعُون " " إنْ " نافية ، و " الظَّن " مفعولٌ به ، فهو استثناءٌ مفرَّغ ، ومفعولُ الظَّن محذوفٌ ، تقديره : إن يتَّبعُون إلاَّ الظَّنَّ أنَّهُم شركاءُ ، وعند الكوفيين : تكون " أل " عوضاً من الضمير ، تقديره : إن يتَّبعُون إلاَّ ظنَّهُم أنهم شركاءُ ، والأحسنُ أن لا يقدر للظَّنِّ معمولٌ ؛ إذ المعنى : إن يتبعون إلا الظن ، لا اليقين .

وقوله : " إن يتَّبعُون " من قرأ " يَدْعُون " بياء الغيبة ، فقد جاء ب " يتَّبِعُونَ " مطابقاً له ، ومن قرأ " تَدْعُونَ " بالخطاب ، فيكون " يتَّبِعُون " : التفاتاً ؛ إذ هو خروجٌ من خطابٍ إلى غيبة ، والمعنى : إن يتَّبِعُون إلاَّ ظنونهم الباطلة ، { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } : يكذبون ، وقد تقدَّم في الأنعام .


[18526]:ينظر: الكشاف 2/357.
[18527]:ينظر: الإملاء 2/30.
[18528]:ينظر: الكشاف 2/357، المحرر الوجيز 3/130، البحر المحيط 5/174، الدر المصون 4/51.
[18529]:ينظر: المحرر الوجيز 3/130.
[18530]:ينظر: الدر المصون 4/51.